البعض يتهم هنتنغتون وفوكوياما بتأثرهما بتخصصهما في مجال الدراسات السياسية الاستراتيجية، الذي ينطلق عادة من مصالح قصيرة المدى، وبالتالي فإن أطروحاتهما تفتقد المعنى التاريخي الشامل، فهما لم يأخذا التاريخ كوحدة تحليل أو فترة زمنية طويلة.. تطفو على السطح نظريات هنتنغتون وفوكوياما كلما كان هناك صدام أو عمل إرهابي أو اعتداء بين مسلمين وغير مسلمين، خصوصا إذا كان المكان ينتمي إلى عالم الغرب. وسبق أن تناولت النظريتين من قبل، ولكن الأحداث الأخيرة تستدعي التطرق إليهما. فرانسيس فوكوياما - تعني القسيس البروتستانتي - وهو ابن لقس ياباني، كان قد هاجر من اليابان إلى أميركا منذ زمن، يُعد من مجددي النهج الهيغلي، كان هيغل قد تنبأ بنهاية التاريخ في القرن التاسع عشر بقيام الدولة القومية البروسية، وجاء بعده ماركس ليعلن أن الشيوعية هي بداية التاريخ الحقيقي، وستتلاشى الرأسمالية، ولكن كما نرى اليوم أن التاريخ لا يمكن أن يتوقف طالما أن علم الطبيعة الحديث ليست له نهاية. فوكوياما يصر على أن البشرية قد وصلت إلى نهاية التاريخ فيما يتعلق بالنظام السياسي، ولا سيما بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وأن الديمقراطية الليبرالية ستنتصر؛ لأنها - حسب اعتقاده - خالية من العيوب، ولذا هو يهمس في أذننا بأن هذه الديمقراطية المتحررة، ونظامها الاقتصادي الذي يتحكم فيه السوق، هما البديلان الوحيدان للمجتمعات الحديثة، وأن التاريخ اتجاهي ومتجدد، ويبلغ ذروته في إطار الدولة الحديثة المتحررة. توصل فوكوياما إلى هذه النتيجة باستخدام التاريخ من وجهة النظر الهيغيلية - الماركسية الخاصة بالتطور التقدمي للمؤسسات البشرية السياسية والاقتصادية، ولذلك فهو يرى أن التاريخ هنا مدفوع بعاملين: الأوله فهم علم وتقنية الطبيعة الحديث، الذي يوفر أساس التحديث الاقتصادي، والآخر النضال من أجل الحصول على الاعتراف، الذي يتطلب - في نهاية الأمر - نظاما سياسيا يعترف بحقوق الإنسان المتعارف عليها دوليا، كما أنه يرى أن ذروة عملية التطور التاريخي ليست في الاشتراكية - كما يرى الماركسيون - وإنما في الديمقراطية وفي اقتصاد السوق؛ ولذلك فهو يراهن على نجاح العولمة كنموذج تنموي. يعتقد أننا وصلنا إلى نهاية التاريخ، بمعنى انتهاء حقبة وبداية أخرى، بالمعنى نفسه لدى ماركس، بيد أن الفارق بينهما أن ماركس (الاشتراكية) اعتبر أن التاريخ الإنساني الحقيقي يبدأ مع تشكل المجتمع اللاطبقي، ولكن لماذا لم تنجح الاشتراكية في أن تكون (نهاية التاريخ)؟ يجيب فوكوياما بأنه ربما الأدوات التي تبناها الاشتراكيون (الاشتراكية المبكرة، والتحليلية، والتشنج، ومعسكرات العمل) ربما جعلتها غير قادرة عمليا على تحويل الأساس الطبيعي للسلوك البشري. ومن يتأمل مقولات فوكوياما يجد أنها تنتهج الأسلوب الهيغلي أو ما يسمى الحركة المنطقية، فمثلا الرأسمالية والشيوعية، نظام ونظام مضاد، فالتوحيد بينهما يؤدي إلى تطورهما، ومن هذا التطور ينبثق نظام ثالث أرقى منهما. فوكوياما يريد أن يقول إن الانتصار للديمقراطية الليبرالية، وسيكون العالم ليبراليا، وسيبقى ليبراليا ما بقيت الحياة؛ حيث يكون التاريخ قد انتهى بوصوله إلى أقصى ما يمكن أن يصل إليه البشر من رقي. أما صموئيل هنتنغتون ونظريته «صدام الحضارات» وبكثير من الإيجاز، نجد أنها تقول إن النزاعات الدولية سواء منها الإقليمية أو العالمية ستكون في المستقبل على شكل صدام حضارات، وليس على شكل صراع أيديولوجي؛ لأن الاختلاف بين الحضارات حقيقي الوقوع. مؤكدا أن البؤرة المركزية للصراع العالمي ستكون بين الغرب والحضارتين الإسلامية والكونفوشوسية (الصينية)، وما دام الأمر كذلك فإن هنتنغتون يطالب الغرب باحتياطيات ضرورية عليه أن يتخذها من الآن على المديين القريب والبعيد، منها زيادة التسليح حفاظا على التوازن العسكري مع الصين والدول الإسلامية، ودعم الجماعات المتعاطفة مع الغرب في الحضارات الأخرى، ومحاولة اختراق الحضارتين (الإسلامية والصينية) من الداخل والخارج، وذلك بتعميق فهمه للأسس الفلسفية والدينية التي تقوم عليها هاتان الحضارتان، كما أن على الغرب أيضا أن يحافظ على قوته الاقتصادية لحماية مصالحه. البعض يتهم هنتنغتون وفوكوياما بتأثرهما بتخصصهما في مجال الدراسات السياسية الاستراتيجية، الذي ينطلق عادة من مصالح قصيرة المدى، وبالتالي فإن أطروحاتهما تفتقد المعنى التاريخي الشامل، فهما لم يأخذا التاريخ كوحدة تحليل أو فترة زمنية طويلة كما يرى المفكر تركي الحمد، ما يعني وجود خلل في الخلاصة النهائية، ونتفق مع مفكرنا د. الحمد بإقراره بوجود صراع بين الثقافات في الماضي وفي الحاضر، وحقيقة الانتصار الحالي لليبرالية، إلا أن هذه النتائج غير مطلقة ودائمة.. وللحديث بقية..
مشاركة :