د. علي حسين باكير – ما ان بدأت النتائج غير الرسمية للانتخابات البلدية التركية بالظهور رويداً رويداً، حتى نشبت معركة إعلامية بين تيّارين داخل تركيا وخارجها. تيّار يقوم بالترويج لهزيمة الخط السياسي لحزب العدالة والتنمية انطلاقاً من حقيقة أنّ الحزب خسر مواقعه الرئيسية في معظم المدن الكبرى والمهمّة، وأنّ ذلك كان بمنزلة ضربة قاسمة للحزب ورئيسه رجب طيب أردوغان بما يؤذّن بنهاية تصدّره للحياة السياسية في تركيا. وتيّار آخر في المقابل يقوم بتجاهل الحقائق المتعلّقة بموقف الناخبين في المدن الكبرى، ليدّعي أنه لا تأثير لما جرى بتاتاً على أي صعيد، وليذهب أبعد من ذلك في الادعاء بأنّه لا تراجع قد حصل في الاداء أو لدى ناخبي حزب العدالة والتنمية، وأنّ الحزب حقّقّ تقدّماً على أكثر من صعيد في هذه الانتخابات. لا تغيرات كبيرة كلا الاتجاهين غير صحيح بطبيعة الحال. وبالرغم من أنّ النتائج الرسمية النهائية لم تصدر بعد، فإنّه من غير المتوقع حصول تغييرات كبيرة على مجمل النتائج العامّة. ففي إطار الانتخابات البلدية، حزب العدالة والتنمية كسب رقمياً، بمعنى أنّه حصل على نسبة نحو %44 من الاصوات، وفاز في 39 من أصل 81 بلدية، واذا ما أضفنا الأرقام المتعلّقة بحليفه حزب الحركة القومية تصبح النسبة نحو %51 من الأصوات، و50 من أصل 81 بلدية. وضمن هذا الانتصار، حقق الحزب فوزاً آخر في معركته الخاصة مع حزب الشعوب الديموقراطية الكردي شرق البلاد، حيث نجح لأوّل مرّة في إحداث خرق غير اعتيادي في بعض المناطق هناك، لا سيما في شرناق. لكن في حسابات الخسارة، فإنّ الحزب الحاكم خسر باتجاهين رئيسيين، الأوّل يتعلق بالوزن والثقل السياسي والاقتصادي للمدن التي فقد فيها البلديات الكبرى، حيث ذهبت الغالبية العظمى منها الى المعارضة، أمّا الاتجاه الثاني فهو يتعلّق بالناخبين، حيث انخفضت نسبة التصويت هذه المرة مقارنة بالانتخابات الماضية بفارق يقارب الـ%6، كما نجحت المعارضة في زيادة رصيدها من نسبة التصويت ومن البلديات أيضاً. وحقيقة انّ «العدالة والتنمية» فاز بالغالبية الساحقة من البلديات الفرعية وخسر البلديات الكبرى، فهذا يؤكّد على الرسالة السياسية التي أراد الناخب ارسالها، والاشكالية انّ هذه الرسالة قد تحمل دلالات أبعد من الانتخابات البلدية. تراجع منذ 2015 بالاستطاعة القول إنّه وباستثناء «اسطنبول»، فإنّ النتائج كانت متوقعة الى حدّ ما على اعتبار انّ الحزب الحاكم كان يعلم انّه يعاني من تراجع وأنّه سيخسر بعض المدن الكبرى بما في ذلك العاصمة أنقرة. المؤشرات على ذلك ليست جديدة، فالمشهد العام يؤكّد أنّ هناك تراجعاً منذ عام 2015 تحديداً، حيث كان الحزب قد فاز بالانتخابات التشريعية حينها لكنّه خسر الأغلبية المطلقة التي كانت يتمتع بها لـ13 عاماً متوالية، ما أدّى الى فشله للمرّة الأولى حينها في أن يشكّل الحكومة منفرداً. علاوةً على ذلك، فإن الاستفتاء الذي جرى في عام 2017 كشف عن تراجع التأييد في المدن الكبرى. لا شك انّ الحزب الحاكم كان يأمل في ان يحصل على نتيجة أفضل في هذه البلديات من خلال استخدامه لأقوى أوراقه الانتخابية التي زجّ بها في المدن الكبرى كرئيس الوزراء السابق بينالي يلديريم ووزير الاقتصاد السابق نهاد زيبقجي، لكن ذلك لم يحصل. ثلاثة أسباب للخسارة ثلاثة أسباب على الأرجح كان لها دور في الخسائر على مستوى المدن الكبرى، أوّلها وأهمّها الوضع الاقتصادي في البلاد. في عام 2018، تراجع النمو الاقتصادي أكثر من %5 مقارنة بالعام الذي سبقه، كما تراجع معدل دخل الفرد حوالي 500 دولار عن الفترة نفسها، أمّا التضخم فبلغت نسبته حوالي %20، والبطالة %15. المدن الكبرى يقطنها غالبية الشعب، وتشكّل هذه المدن القسم الأكبر من اقتصاد البلاد، وبالتالي لا يمكن تجاهل الرسالة الصادرة عن الناخبين فيها. العنصر الثاني يكمن ربما في تغيير رؤساء البلديات في الوقت بدل الضائع. ففي نهاية عام 2017، ضغطت رئاسة الجمهورية والقيادة السياسية للحزب على رؤساء بلديات معروفين للاستقالة بينهم رئيس بلدية أنقرة ورئيس بلدية اسطنبول بدعوى التجديد في دماء المرشحين والتحضير للانتخابات، لكنّ هذا الإجراء ادى الى نتائج عكسية على الأرجح،، فرؤساء البلديات -خاصة في حالة رئيس بلدية انقرة السابق مليح كوكتش الذي استمر في منصبه قرابة 25 عاماً- كانوا قد كوّنوا قاعدتهم الشعبية الخاصة، فهؤلاء يحصلون على اصواتهم بشكل مباشر من الشعب تماماً كرئيس الجمهورية، لذلك عندما يتمّ إرغامهم على الاستقالة دون تأمين البديل الذي يضاهيهم شعبياً، سيتسبب ذلك بمشكلة كما رأينا الآن. تحالف غير علني أمّا العامل الثالث، فقد يرجع الى التحالف غير العلني الذي نشأ في بعض المدن كاسطنبول بين تحالف المعارضة وحزب الشعوب الديموقراطية الكردي. وبالرغم من أنّه لا يوجد أرقام نستطيع الاستناد إليها بهذا الشأن، يُعتقد أنّ جزءا من قاعدة الأخير اتجّهت الى اعطاء أصواتها لمرشّح «الشعب الجمهوري» في اسطنبول، والأكيد أنّ مثل هذا التصويت انطوى على موقف سياسي، ومثله فعل من أراد التصويت ضدّ العدالة والتنمية في مقابل الممتنعين عن التصويت لمصلحته، الأمر الذي رفع من رصيد حزب الشعب الجمهوري بشكل كبير. هناك عوامل اخرى بطبيعة الحال يصعب حصرها في ما هو متاح للمقال كتوجّه «العدالة والتنمية» الى يمين الطيف السياسي ومخاطبة «الشعب الجمهوري» لشريحة المحافظين بشكل غير مألوف، لكن يمكن ملاحظة انّ النتيجة العامة لهذه الانتخابات لم تتسبّب بارتباك أو توتّر لحزب العدالة والتنمية لأنّه كان قد ضمن العام الماضي تغيير النظام السياسي الى نظام رئاسي حيث أصبحت السلطات الرئيسية بيد رئيس الجمهورية، كما انّه ضمن أغلبية برلمانية بالتحالف مع «الحركة القومية». وبهذا المعنى، فان لا تأثير عملياً لنتائج هذه الانتخابات على الوضع الحالي المتعلق بالنظام السياسي الرئاسي أو بدور الأحزاب من الناحية التشريعية أو بشكل السياسة الخارجية للبلاد. إذ انّ هذه الامور مرتبطة بالانتخابات الرئاسية والتشريعية التي حصلت في يونيو من عام 2018 وستجري لاحقاً في عام 2023. فرصة وتحدٍّ لكن في المقابل، فان نتائج هذه الانتخابات – لاسيما في شقّها المتعلق بالمدن الكبرى – مهمّة لناحية تقييم العناصر التي أثّرت في توجهات الناخبين وجعلتهم يحجبون عن أصواتهم لحزب العدالة والتنمية أو يدعمون المعارضة، والتي تعدّ مؤشّراً للاتجاه الذي قد تسلكه الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة. هناك فترة 4 سنوات حتى الانتخابات المقبلة، وهذه الفسحة من الوقت تمثّل فرصة متاحة للطرفين وتشكّل تحدّياً لهما في نفس الوقت. بالنسبة الى الحزب الحاكم، فهو يقول انّ الرسالة وصلت، وأنّه سيسعى الى تصحيحها من خلال عملية اصلاح اقتصادية ومن خلال الحرص على أخذ وجهة نظر الناخبين بعين الاعتبار. إذا نجح الحزب فعلاً في تحقيق ذلك قبيل الانتخابات المقبلة، فقد يتمكّن من إبقاء سيطرته على المشهد السياسي التركي منفرداً أو بالتحالف مع آخرين، لكن اذا فشل في تحقيق ذلك، فسيخسر المزيد حينها. في المقابل، البلديات الكبرى تتيح تخصيص موازنات ضخمة كما انّها تضع المسؤول على تماس مباشر مع الناس، ولذلك فانّ أداءه الخدمي قد ينعكس على انتمائه السياسي سلباً أو إيجاباً. اذا ما استغلت المعارضة المواقع التي حصلت عليها الآن بشكل جيّد، وأدّت كما يتوقّع الناخب منها خاصّة أنّه سيكون لديها فرصة لأن تنافس بشكل أكبر في الانتخابات المقبلة، أمّا اذا فشلت في تحقيق ذلك، فقد ينعكس الامر عليها سلباً هي الأخرى.
مشاركة :