ظاهرة أنسنة البرامج التلفزيونية تكتسح حالياً الشاشات اللبنانية التي باتت تتنافس بين بعضها على تقديم مبدأ الأنسنة في محتواها على أي موضوعات أخرى. ففي الحقبة الزمنية الماضية اتخذت البرامج التلفزيونية عناوين كثيرة لها. فتنقلت ما بين موضة برامج الهواة في الثمانينات لتلحقها أخرى تعتمد برامج الترفيه والألعاب في التسعينات ولتلونها برامج الواقع في الألفية الثانية. وفي السنوات العشرين الماضية لم تتسم شبكات البرامج بعناوين محددة. فراحت تبحث عن هوية تنقذها من الركود المسيطر على أسواق إعلاناتها والذي أثر على مداخيلها المتراجعة بشكل ملحوظ. ولعلّ لجوء هذه المحطات حالياً إلى المواضيع الإنسانية ساهم في إعادتها إلى الواجهة. ففي زمن وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الإلكترونية وجدت التلفزيونيات نفسها محشورة في زاوية لا تحسد عليها. فكان لا بد من العودة إلى زمن الإنسانية كي تجذب أكبر شريحة ممكنة من المشاهدين. فهذه الموضوعات تلامس متابعها بشكل أو بآخر ولو كانت بعيدة عنه في حالات يعتبرها متخلفة ولا تشبهه أحياناً. فكما «هوا الحرية» و«أحمر بالخط العريض» على شاشة الـ«إل بي سي آي»، يتابع المشاهد على قنوات أخرى برامج «بدّا ثورة» و«متلي متلك» على محطة «إم تي في» وبرنامجي «طوني خليفة» و«أنا هيك» على قناة «نيو تي في». وجميع هذه البرامج تتناول حالات اجتماعية نافرة تم استخدامها كمادة دسمة في الإعلام المرئي لتسليط الضوء إما على تقاعس الدولة في تنفيذ واجباتها تجاه المواطن وإما لدفع المشاهد وتعويده على تقبل غيره مهما بلغت الاختلافات بينه وبين الآخر. وفي مرات أخرى جذبت المشاهد من خلال عرضها حالات إنسانية كسرت حاجز الخوف وباحت بما كان يسمى «محرماً» (تابو) بفضل انتشار هذا النوع من المواضيع على وسائل التواصل مسبقاً. «هذا الموضوع ليس بالجديد علينا في المحطة لا بل كنا السباقين في تناوله منذ سنين طويلة. وهي برأيي إنتاجات درامية من نوع آخر». يقول رئيس مجلس إدارة «إل بي سي آي» لـ«الشرق الأوسط» ويوضح: «فالقصص التي نتابعها مع مالك مكتبي في (أحمر بالخط العريض) ومع جو معلوف في (هوا الحرية) هي دراما من نوع آخر تلامس مشاعرنا وأحاسيسنا كبشر. فطبيعتنا البشرية تجاه هذا النوع من البرامج تجعلنا نتفاعل تلقائياً معها، وهو ما دفع بشاشات أخرى إلى اعتمادها اليوم أكثر من الماضي». ويؤكد بيار الضاهر بأن المؤسسة اللبنانية للإرسال لم تغب هذه البرامج عن شاشتها يوماً ومنذ تأسيسها حتى اليوم. فبرنامج «مكتبي» عمره ما فوق الـ17 عاماً. كما أن بيتر خوري (مخرج ومنتج تلفزيوني سابق) كان ينتظره الملايين منذ التسعينات وبعدها لمتابعة قصصه الإنسانية التي كانت تقدم بحلقات خاصة (سبيسيال) في مناسبات الأعياد. ويضيف في سياق حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «لطالما شكّلت الدراما العمود الفقري الأهم في البرامج التلفزيونية ولا شك بأن مفهوم الدراما ينطبق على هذه البرامج التي ذكرتها لأنها تخاطبنا بلغتنا النابعة من واقعنا». بدوره يرى جو معلوف مقدم برنامج «هوا الحرية» وسابقه «حكي جالس» على قناة «إل بي سي آي» والذي سمّي مؤخراً من قبل «اتحاد حماية الأحداث» في لبنان سفيراً له، بأنه لا يحاول أن يلعب دور أحد في برنامجه. ويقول: «إنني ألعب دور الإنسان الموجود في داخلي كما في داخل أي منّا. فمنذ أن دخلت هذه الأجواء من نحو 7 سنوات على قناة «إل بي سي آي»، وخصوصاً في السنوات الثلاث الأخيرة فتحت شهية كثيرين غيري على تناولها. وهذا الأمر لا يزعجني كونه يشكل عنصراً صحياً نحن بأمس الحاجة إليه. فازدياد المشكلات في لبنان ونوعية المصائب والمعاناة المتكاثرة من دون إيجاد خطة استيعابية لها، جعلت الجهات الرسمية عاجزة عن حلّها لوحدها. ولا أستطيع نكران مساعدة بعض هذه الجهات في حل القضايا التي أتناولها، مثل «اتحاد حماية الأحداث» وأخرى قانونية وعدلية من قضاة ومحامين، مما ساهم في تفعيل البرنامج على الأرض ليحدث الفرق. ويؤكّد معلوف في سياق حديثه لـ«الشرق الأوسط» أنه وفي ظل المنافسة القوية التي تشهدها هذه النوعية من البرامج يحاول أن يجد حلولاً سريعة للمشاكل التي يتلقاها من مواطنين عاديين بات قسماً منهم يلجأ إلى ذكر اسمه لوضع حدّ لمعاناته. «في الحقيقة وإضافة إلى عدد المشكلات التي أتناولها مباشرة على الهواء هناك نحو 30 أخرى يتم حلّها خارج العرض المباشر للبرنامج، وذلك بمجرد ذكر اسمي من قبل أحد الطرفين المتنازعين». وهل هذا يعني بأنك أصبحت شخصية رادعة يخاف منها الآخرون لمجرد ذكر اسمها؟ يردّ: «القصة ليست مجرد زرع الخوف لدى الظالم بل ردعه عن القيام بالخطأ كوننا نتابع المواضيع بجدية ولا نتردد عن طرحها كما هي. وهذا الأمر يترجم على الأرض حلولاً لمجرد ذكر اسم البرنامج أو القناة التي أطل منها». أما غادة عيد مقدمة برنامج «بدّا ثورة» على قناة «إم تي في» والتي سبق واشتهرت ببرنامجيها «الفساد» و«علم وخبر» فتقول: «هدفنا الأساسي في البرنامج توعية المواطن وشخصياً لا يهمني إثارة مواضيع أستغل فيها حالات أصحابها لتأمين نسبة مشاهدة عالية. فمنذ بداياتي حتى اليوم عملت على محاربة الفساد بكل أشكاله ومساندة المظلومين من قبل سلطة معينة». وتتابع في سياق حديثها: «لا شك أن الموضوعات الإنسانية والمتأتية عن الظلم الاجتماعي تلفتني ولكني أتناولها في إطار مغاير عما يفعله الآخرون على شاشات التلفزة في برامجهم، لأني لا أبغي الشهرة ولا اللهاث وراء جذب المشاهد على حساب أشخاص مستضعفين لا حول ولا قوة لهم غير دقّ أبوابنا في «إم تي في». وعندما أعلم بممارسة عنف أو إجحاف من قبل سلطة معينة تجاه مواطن أو مواطنة فلا أتأخر عن تلبية النداء. فنحن مع الأسف نستطيع حتى الساعة تفكيك المافيات الصغيرة، أما الكبيرة منها والمسؤولة عن الفساد في البلاد، فمن الصعب الإطاحة بها لأنه يقف وراءها أشخاص نافذون». ويعدّ «أنا هيك» للإعلامي نيشان ديرهاروتونيان من البرامج التي تستقطب شريحة كبيرة من المشاهدين على قناة «نيو تي في». ويحاور فيه حالات إنسانية خارجة عن المألوف بهدف نشر مبدأ قبول الآخر رغم اختلافه ومن دون أي تفرقة. فيعزز بذلك مشاعر الإنسان تجاه أخيه الإنسان لتكوين مجتمعات سليمة. ويقول في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «لطالما كانت الشاشة الصغيرة وسيلة لرفع مستوى الشارع إلى فوق ووضعه على الخط المستقيم. إلا أن وسائل التواصل الاجتماعي قلبت هذه المعادلة وصار الشارع اليوم هو من يحرك التلفزيون». ويتابع: «غالبية البرامج التلفزيونية تستند اليوم على مشاركة مباشرة للمشاهد فيها أن من خلال التصويت أو وسم (هاشتاغ) و(لايك) وغيرها من مصطلحات لغة وسائل التواصل الاجتماعي. وبذلك تحول بدوره إلى نجم من نوع آخر بعد أن استهلك نجوم حقيقيون كالفنانين مثلاً أنفسهم بإطلالات كثيفة. وطوال هذه السنوات صار المشاهد أكثر تمرساً واحترافاً، إذ صار يعرف بخفايا هذه اللعبة ودائماً بفضل الوسائل الاجتماعية التي نصبّته نجماً بصورة غير مباشرة فأصبح هو الخبر. وما يحصل اليوم يمكن تشبيهه بثورة بروليتاريا رفعت من شأن المشاهد إلى حدّ جعله بطلاً، وركناً أساسياً في البرمجة التلفزيونية. فكسر رهبة الخوف من التحدث عن خصوصياته وعن المستور وما يسمى بالعار وراح يبوح بمشاكله وهمومه علناً». ويسمي الإعلامي نيشان هذه الظاهرة بالإعلام البديل بعد أن أصيب الأصلي بالإنهاك بسبب وسائل التواصل الاجتماعي فدخل غرفة الإنعاش. اليوم اجتازت التلفزيونات هذا القطوع بعد أن نفدت منه المواد المبهرة لاستقطاب الناس. فالإعلام يعرف بأنه مطحنة وبحاجة دائمة إلى مادة تعزز استمراريته، فلجأ إلى تغيير مصدر قوته تحت شعار حرية الإعلام.
مشاركة :