غرد الرئيس الأمريكي دونالد ترمب الأحد الماضي عبر موقع تويتر مهاجما مجلس "الاحتياطي الفيدرالي"، متهما إياه بتبني سياسة مالية، أعاقت الناتج المحلي الإجمالي من تحقيق معدل نمو بنسبة 4 في المائة. هجوم الرئيس الأمريكي لم يكن الأول من نوعه ولن يكون الأخير، فالخلاف بين الطرفين بات واضحا للعيان، خاصة بعد أن ادعى الرئيس الأمريكي أن سوق الأسهم سترتفع من 5000 نقطة إلى 10000 لو كان "الفيدرالي" تصرف بشكل صحيح. والصحيح من وجهة نظر الرئيس أن يتخلى "الفيدرالي" عن سياسة التشدد النقدي التي يتبناها، وأن يخفض أسعار الفائدة ليتيح لرجال الأعمال الاقتراض، وتوسيع استثماراتهم وزيادة معدلات التوظيف. فسياسة التشدد النقدي الراهنة -من وجهة نظر ترمب- "تقتل" النشاط الاقتصادي وتعوق النمو، والأهم أن خفض معدلات الفائدة -وهو ما يرفض "الفيدرالي" الأمريكي تبنيه- لم يكن يؤثر في معدلات التضخم من وجهة نظر زعيم البيت الأبيض. هجوم ترمب الذي طال بشكل واضح جيروم باول رئيس المجلس الفيدرالي، جاء بعد أن أطلع جيروم المشرعين في الحزب الديمقراطي الأمريكي، بأنه لن ينحني للضغوط السياسية التي تمارس عليه، وذلك على الرغم من أنه تم اختياره من قبل ترمب ليحل محل جانيت باول. بالطبع لم يبني الرئيس الأمريكي موقفه من فراغ، حيث إن ارتفاع أسعار الفائدة الأمريكية أدى إلى تباطؤ بعض قطاعات الاقتصاد، مثل الإسكان. لكن في المقابل يرد باول بأن التوسع الاقتصادي الأمريكي استمر رغم رفع الفائدة، ومعدلات البطالة في أدنى مستوى لها منذ عقود، والتضخم يقترب من الهدف المحدد له والبالغ 2 في المائة. ويعلق مارك وايت الباحث الاقتصادي قائلا: "عديد من السياسيين يريدون لبنوكهم المركزية أن تحفز النمو من خلال الحفاظ على سياسة نقدية سهلة، هذا التدخل السياسي يجعل المستثمرين قلقين بشأن اشتعال التضخم، وارتباك توجهات أسعار الفائدة في ظل الصراع بين السياسيين ومحافظي البنوك المركزية، والنتيجة ضغوط غير مبررة على الأسواق، ما قد يضر بالتوسع الاقتصادي في نهاية المطاف". لكن سياسة التشدد النقدي ليست حكرا على الفيدرالي الأمريكي، فعلى الضفة الأخرى من الأطلسي، أوقف البنك المركزي الأوروبي في كانون (ديسمبر) الماضي سياسة التيسير الكمي. وفي الأسبوع الماضي مهد ماريو دراجي محافظ البنك المركزي الأوروبي الطريق بمزيد من الإجراءات النقدية التي عدها بعض المراقبين متشددة لمكافحة التباطؤ الاقتصادي الأخير في منطقة اليورو، مبينا أن "المركزي الأوروبي" ملتزم تماما بإحياء النمو إلى المستوى الذي يتفق مع هدف التضخم. ويعتقد دافيد ليفي الخبير المصرفي والاستشاري السابق في البنك الدولي، أن ضغوط ترمب، ومواقف دراجي تشير إلى أن الاتجاه المرجح بقوة هو عودة سياسة التيسير الكمي مجددا، خاصة إذا انخفضت التوقعات التضخمية أكثر. ويقول لـ"الاقتصادية"، إن "عودة التيسير الكمي ستكون تدريجية إذا أفلحت ضغوط ترمب، وكذلك إذا أدرك دراجي أنه لا يوجد بديل أكثر نجاعة للنمو الاقتصادي حاليا في منطقة اليورو سوى التيسير الكمي". ويضيف، "التيسير الكمي سيعود لأنه وسيلة مثلى لمنح المقرضين تمويلا رخيصا من الفيدرالي الأمريكي أو المركزي الأوروبي وبشروط تفضيلية، وعملية شراء الأسهم من قبل البنوك المركزية قد تصل إلى مستويات قياسية هذا العام". لكن نهج التيسير الكمي يواجه حالة من عدم الرضا من عدد من الاقتصاديين التقليديين ومن بينهم الدكتورة جان ستيوارت أستاذة المالية العامة في جامعة لندن. وتؤكد لـ"الاقتصادية"، أن الأساس المنطقي وراء التيسير الكمي هو خفض أسعار الفائدة، وبالتالي تحفيز النمو، عبر زيادة المعروض من النقود، ومن ثم تحافظ البورصات على قوتها نتيجة نمو الشراء، خاصة مع انخفاض قيمة العملة جراء زيادة المعروض منها، ومن ثم تصبح الصادرات أرخص، وتحصل الأسهم المحلية على مزيد من الاهتمام الأجنبي والتدفقات المالية. وتضيف، "لكن تلك المزايا وعندما تطرح سياسة التيسير الكمي على المائدة فلا أحد يتساءل كثيرا من أي تأتي الأموال الإضافية التي تضخ في الأسواق، والجميع يغمض عينه عن احتمالات الاضطرابات الاقتصادية التي يمكن أن تثيرها برامج التسهيلات الكمية". ولكن يجب الأخذ في الاعتبار أن سياسة التيسير الكمي ربما تحظى بدعم الرئيس ترمب لأسباب أخرى، فبموجبها يشتري "الفيدرالي الأمريكي" سندات الخزانة، ما يزيد الطلب ويبقى عوائدها منخفضة، وبالتالي ستبقى ديون المستهلكين معقولة وتحت السيطرة، وبالطبع ينطبق ذلك على شهادات الشركات أيضا، ما يمكن الشركات من التوسع دون قلق. وإذ يرجح كثير من الاقتصاديين ترحيب الأسواق بالعودة بشكل أو بآخر لسياسة التيسير الكمي، فإن اقتصاديين في مؤسسات مالية دولية، لا يزالون يظهرون تحفظا من مخاطر الاعتماد على التسهيلات الكمية وسيلة للنمو. ويقول أرون صامول الخبير الاستثماري في الشركة الدولية للاستثمار في الأوراق المالية لـ"الاقتصادية"، إن "التيسير الكمي يفيد بالأساس الأثرياء، إذ يغرق الأسواق بالأموال، ويدفع الحكومات إلى تبني أسعار فائدة منخفضة بشكل مصطنع، وهذا يزود المستهلكين بأموال إضافية للإنفاق". ويعتقد أرون صامول، أن هذا يضع الاقتصاد ككل على شفا التضخم، وعلى الرغم من أن التضخم لا يزال تحت السيطرة على المستوى العالمي، إلا أن هناك شكوى دولية من ارتفاع أسعار المواد الغذائية، وتكاليف السلع والخدمات الأخرى في ارتفاع أيضا وفقا لتعليقاته. لكن المجلس الفيدرالي والمصرف المركزي الأوروبي يقاومان حتى الآن تطبيق تلك السياسة، من منطلق أن تكون الفرصة متاحة لهما ليقرر ببساطة استخدام تلك الأموال الإضافية التي ستضخ في الأسواق، لزيادة احتياطاتهم الرأسمالية في محفظة القروض الخاصة بهما. ونظرا إلى أن البنوك المركزية في الولايات المتحدة لا تمتلك السلطة لإجبار المصارف التجارية على إقراض شخص ما، فإن التسهيلات الكمية يمكن أن ترسخ مزيدا من الطبقية في المجتمع، وتوجد أوضاعا من الاضطراب الاجتماعي، إذ بإمكان الشركات الغنية والكبيرة الاقتراض بأسعار فائدة أقل، بينما يترك صغار المقترضين بلا حول ولا قوة، كما أن التسهيلات الكمية تزيد العجز ما يؤثر في جميع دافعي الضرائب، ولكن التأثير في الأغنياء غالبا ما يكون أقل. ويصبح السؤال هل ذهب الاقتصاد العالمي بعيدا في التعويل على سياسة التيسير الكمي كوسيلة لضمان تحقيق النمو الاقتصادي؟. يجيب لـ"الاقتصادية" الدكتور إل. روني أستاذ الاقتصاد الدولي في جامعة أكسفورد قائلا، "يصعب الإجابة عن هذا السؤال الآن، والزمن وحده كفيل بمعرفة الإجابة، ولكن ضغوط الرئيس ترمب في اتجاه إعادة التيسير الكمي وخفض الفائدة، لا يستقيم اقتصاديا مع دولة تبلغ مديونيتها أكثر من 20 تريليون دولار". ويضيف "وإذا كانت عملية شراء أسهم الشركات الكبيرة بأموال رخيصة من التيسير الكمي وأسعار الفائدة المنخفضة، قد غذت أسواق الأسهم لمدة عقد من الزمان، فإن تزايد الفجوة بين الأثرياء والفقراء، وارتفاع أسعار السلع الحيوية بالنسبة للطبقة المتوسطة والطبقات الفقيرة، قد يتطلب إعادة النظر في جدوى التيسير الكمي في الوقت الحالي على الأقل". والتيسير الكمي أو التسهيل الكمي، هو سياسة نقدية غير تقليدية "طباعة النقود"، تستخدمها البنوك المركزية لتنشيط الاقتصاد القومي عندما تصبح السياسة النقدية التقليدية غير فعالة، حيث يشتري البنك المركزي الأصول المالية لزيادة كمية الأموال المحددة مقدما في الاقتصاد. وينفذ البنك المركزي التسهيل الكمي من خلال شراء الأصول المالية من البنوك ومن شركات القطاع الخاص بالأموال الجديدة المنشأة إلكترونيا. ويزيد هذا الإجراء من الاحتياطيات الفائضة للبنوك، وكذلك يرفع أسعار الأصول المالية التي تم شراؤها، ما يخفض من عائداتها. وعادة ما تنطوي السياسة النقدية التوسعية على شراء البنك المركزي للسندات الحكومية قصيرة الأجل من أجل خفض معدلات فائدة السوق قصيرة الأجل (باستخدام مزيج من تسهيلات الإقراض الثابتة وعمليات السوق المفتوحة). ومع ذلك، فعندما تكون معدلات الفائدة قصيرة الأجل إما عند صفر أو قريبة منه، فإن السياسة النقدية العادية لا تكون قادرة على خفض معدلات الفائدة. ثم قد تستخدم السلطات النقدية التسهيل الكمي لزيادة تنشيط الاقتصاد بشراء أصول ذات فترات استحقاق أطول فحسب من السندات الحكومية قصيرة الأجل، وبالتالي تخفيض معدلات الفائدة ذات الأجل الأطول، إضافة إلى منحنى العائد.
مشاركة :