وسط نمو اقتصادي ضعيف ومحبط ومع تراجع أسعار النفط الذي يحول دون انتعاش معدلات التضخم تجهد البنوك المركزية أنفسها لإقناع المستثمرين بأنها لا تعدم الوسيلة لرفع معدلات التضخم، ويتم التعامل مع مفهوم التيسير الكمي السخي انطلاقا من هذه الأرضية. وتقوم فكرة التيسير الكمي على ضخ النقود في الأسواق لدعم كتلة السيولة التي يتداولها عامة الناس، أو تنشيط القطاع المصرفي وقنوات إقراضه أو عبر تمويل عجز الموازنات عن طريق البنك المركزي نفسه. وهكذا ينظر عامة الناس إلى الإنفاق الحكومي السخي وانخفاض معدلات الضريبة على أنها قابلة للتعويض عبر طباعة المزيد من النقد دون اشراك النسب الضريبية المرتفعة ولا حتى برامج التقشف الحكومي في تسديد الديون مستقبلاً. ولا شك أن الحماسة لاتخاذ المزيد من الإجراءات عندما تبلغ معدلات أسعار الفائدة حد الصفر، تبقى مفهومة ومبررة من وجهة نظر التحليل الاقتصادي البحت. لكن الذي يغيب عن الأذهان ولو مؤقتاً أن السياسة النقدية والسياسة المالية تكمل إحداهما الأخرى. وربما لا يكون ذلك متاحاً بنفس الدرجة التي يراها أنصار التيسير الكمي السخي، إلا أنه يوفر حوافز اقتصادية تفوق حدود المدرك منها. فمعايير السياسة النقدية الفضفاضة جداً التي تم اعتمادها في اليابان ومنطقة اليورو، حيث تتسع الكتلة النقدية الأساسية بنسبة تتراوح بين 2.5 و3% من الناتج الإجمالي الاسمي كل ثلاثة أشهر، ستكون لها تبعات على الاقتصاد العالمي وعلى السياسة المالية. وفي الوقت الذي تضغط برامج التيسير الكمي بقوة على معدلات أسعار الفائدة طويلة الأجل في كلتا المنطقتين، بحيث تراجعت نسب العائد على السندات الحكومية وسندات الشركات إلى حدود النطاق السلبي، بدأت تظهر آثار هذا النمط من العلل في الاقتصادات المتقدمة. وخلافاً لما نراه في حرب العملات، حيث يسفر خفض واحدة منها عن ارتفاع الأخرى، فإن الواقع في أسواق السندات تحول إلى لعبة الناتج الإيجابي المضمون بعد تخفيف الشروط المالية عامة. وينطبق الكلام عينه على بقية الأوعية الاستثمارية. فتدني معدلات العائد على السندات الحكومية يدفع الحكومات إلى مزيد من الاقتراض، وبالتالي الوقوع في مصيدة العجز عن السداد وفقدان قدرتها على ضبط العمليات الائتمانية في القطاع الخاص. وقد بلغت قيمة السندات الحكومية التي اشتراها البنك المركزي الأوروبي وبنك اليابان ثلاثة أضعاف الدين الحكومي. وأخيرا تقول البنوك المركزية إنها سوف تعيد الاستثمار في السندات والأوراق المالية التي تستقر لديها إلى أن ترتفع معدلات أسعار الفائدة إلى حدودها الطبيعية (عند 2%). وهذا معناه في ظل أسعار الفائدة الحالية أن الكتلة النقدية التي تم تكديسها نتيجة شراء ديون الحكومات لن تكمل دورتها الوظيفية وتعود إلى وضعها الطبيعي قبل مرور عشر سنوات. *رئيس قسم أبحاث الأسواق الرئيسية في غولدمان ساكس
مشاركة :