عندما تمر بطريق تجاري في أي مدينة، لابد أن تبهرك لوحات المحال التجارية المختلفة بألوانها الزاهية وكتاباتها الكبيرة التي تغنيك عن السؤال في سبيل تسوقك لأي سلعة، فهذا مطعم فخم يبدو لك من لوحته الجميلة التي تمثل عملاً فنياً رائعاً، وتحمل العديد من العبارات التي تعدد ما يمكن تقديمه للزبائن، وهذه لوحة مغسلة وأخرى محامص وغيرها الكثير من المحال التجارية المتناثرة على جانبي الطريق. وبالرجوع إلى الأمس القريب نجد أن المحال التجارية فيما مضى لم تكن تعلوها لوحات تعريفية، كما هو عليه الحال اليوم، وذلك يرجع إلى عدة أسباب منها أن هذه المحال كانت تحتل مكاناً بارزاً وسط البلدات والقرى، بحيث يكون في وسط كل منها سوقاً تجارياً تتوسطه مساحة كبيرة كانوا يطلقون عليها اسم "المجلس"، فكل من يريد أن يتبضع فإنه يتجه إلى هذا "المجلس"، والذي هو مكان البيع والشراء وإليه يجلب الباعة بضائعهم، إضافةً إلى المحال الدائمة والتي كان يطلق عليها في السابق اسم "الدكاكين" -مفردها دكّان- والتي تمتاز بصغر حجمها؛ لأن البضائع كانت محدودة والكماليات شبه معدومة، فلا يوجد إلاّ الأساسيات من في الماضي «دكّان» الجزار متميز بالشحوم، والحداد بالرماد، وبائع البهارات والعطور بالروائح الزكية المواد الغذائية والشحيحة في ذلك الوقت، ومن الأسباب هو انتشار الأمية وتعذر القراءة والكتابة على الكثير من روّاد السوق، لذا لم يكن الحال يستدعي تعليق لوحات تعريفية بالمحال التجارية، فالكل من أصحاب القرية يعرف موقع "دكاكين" البيع والشراء، أمّا الزائر فكان وصوله إليها مكفولاً بسؤال أول من يقابله من أهل البلدة ليدُلّه في الحال لصغر مساحة البلدان قديماً، وربما عرف البعض مكان السوق و"الدكاكين" من العلامات البارزة على أبوابها، أو في محيطها، فقد كان "دكّان" الجزار متميزا بكثرة الزيوت والشحوم على باب محله، خاصةً مكان فتحه وإغلاقه، بينما محل الحداد يكون ظاهراً من كثرة الرماد حوله لكثرة إشعاله النار لطرق الحديد، أما بائع الكماليات والبهارات والبزار والعطور فتفوح بالقرب منه الروائح الزكية التي تجعل الشخص يتنفس بعمق شديد من طيب الرائحة، وكذلك بالنسبة ل"دكّان" النجار الذي تجده محاطاً بقشور الأشجار ولحائها، وبقي الحال على ما هو عليه حتى جاءت الطفرة وانتعش الاقتصاد وتوسعت البلدات والقرى وصارت مترامية الأطرف وصار من الصعوبة بمكان أن تجوبها مشياً على الأقدام في مدة وجيزة، مما جعل المحال بحاجة إلى وضع لوحات تميزها عن بقية الأبواب التي ليست بمحال تجارية. تدرجت اللوحات مع الوقت بعدد من الأشكال حتى وصلت إلى أحدث التقنيات التي يشهدها العالم حالياً لوحات تعريفية في البداية كانت المعروضات أمام كل دكّان من دكاكين القرية تغني عن اللوحة التجارية، فعلى سبيل المثال يُعلّق بائع "الخوص" عند فتح دكانه مع إشراقة الصباح "سفرة" من الخوص أو "مهفة" أو "حصير"؛ لتوحي لرواد السوق بما يبيعه هذا المحل من "خوصيات" مثلاً، أمّا محل الأواني فيُعلّق "أباريق" أو"صواني" أو ملاعق لتدل على أن هذا الدكّان متخصص في بيع الأواني المنزلية وهكذا، والحقيقة أن بداية التوسع في افتتاح المحال التجارية كانت في "البقالات" التي تبيع كل ما يحتاجه المرء من مأكولات ومشروبات وكماليات، ومع بداية انتشار المشروبات الغازية والمرطبات فقد كان هناك سباق بين تلك الشركات في نشر دعايات لها، فكانت توزع على تلك "البقالات" لوحات من "الصاج" والحديد بها صورة للمشروبات الغازية وعبارات ترويجية من أجل جذب الزبائن، وكان كل صاحب "بقالة" يعلق هذه اللوحات الدعائية على أعلى باب "بقالته" أو في جوانبها مما أغناه عن وضع لوحة تعريفية بمحله، فبمجرد أن يرى الشخص هذه اللوحات الدعائية للمشروبات الغازية يعرف أن هذا المحل "بقالة" فيقبل عليها للشراء منها. مع مرور الوقت وكثرة المحال التجارية وتوسع المدن وتخصيص عدد من الشوارع إلى تجارية باتت كل المحال متشابهة من الخارج وعلى نمط واحد، مما استدعى اللجوء إلى وضع لوحات تعريفية لما يباع فيها، وكان أول معرفة التجار باللوحات من خلال استخدام الخشب والكتابة عليه بالطلاء -البوية-، وهذه الطريقة البدائية التي كان الخطاطون في محلاتهم يعملون بها مما يتوفر من من خامات بسيطة، وقد كان في السابق من يؤدي هذه المهمة محل خطاط واحد كان يغطي مدينة واحدة كالرياض مثلاً، ويفي بالغرض لقلة الإقبال وقلة المحال التجارية، حيث يخط اللوحات لمحال الرياض التجارية ولمن حولها من القرى، ولم يكن هناك شروط من أجل افتتاح محل خطاط بل كانت ميسرة وسهلة، وليس كما هو الحال عليه الآن من ضرورة الحصول على تصريح من إدارة المطبوعات بوزارة الإعلام التي كانت تشترط في بداياتها من المتقدم لفتح محل ضرورة إتقان الخط، حيث يجرى له اختبار في الكتابة وعلى ضوئه يتم منحه التصريح من عدمه. أشهر الخطاطين من أوائل الخطاطين في الرياض هو خطاط "الشويعر" في "دخنة"، وخطاط "ماهر"، والذي يقع في "البطحاء" بالقرب من شارع الوزير، وكذلك خطاط "الدهيران"، وخطاط "أديب" المشهور لصاحبه "إبراهيم بن عبدالله الحسين" من أهالي "أشيقر"، إضافةً إلى خطاط "الوافي"، ولم يكن الكتابات التي تعلو المحل في اللوحة المثبتة عليه تحوي سوى كلمات بسيطة مثل: "دكان فلان للأقمشة" أو "للكماليات" وهكذا، كذلك كانت مساحة اللوحات في البداية صغيرة جداً لا تتعدى نصف متر في نصف متر تقريباً، ولكنها كانت تفي بالغرض المنشود منها ومع تقدم الزمن اندثرت تلك المحال وصارت من أحاديث الذكريات وحل محلها محلات كبرى متخصصة في الخط والرسم وتنفيذ اللوحات الدعائية للمحلات التجارية وظهرت أخيراً وكالات للدعاية والإعلان. مسميات جديدة بعد الطفرة التي شهدتها المملكة في شتى المجالات وتحسن الدخل وفتح باب الاستيراد لكل السلع انتشرت المحال التجارية في كل ركن من أركان المدن والقرى، وصار الناس يقبلون على الشراء من تلك المحال التي لم يألفوها، ففي مجال الغذاء لم يكن الناس يعرفون الأكل إلاّ في منازلهم وما تطبخه ربات المنازل من طعام، وكانت أماكن بيع الطعام وخاصة المطبوخ منه مخصصة للمسافرين في "القهاوي"، أو في محال بيع يقبل عليها العزاب والمغتربين، ولكن ظهرت مطاعم متخصصة في طبخ العديد من الأكلات الشعبية والعربية والأجنبية، وصارت البيوت تتعامل مع هذه المطاعم في الشراء من أجل التغيير، كذلك ظهرت لوحات تبين تخصص كل محل فهذا مطعم يعلوه لوحة "مطعم بخاري"، وذاك "مطعم لبناني"، وآخر متخصص في "المشويات"، ومطاعم صغيرة تقدم الأكلات السريعة ك"البوفيهات". وتغير اسم المحل من "دكّان" إلى اسم متخصص فيما يبيعه من بضائع كمواد غذائية وتموينية أو كماليات أو أثاث وغيرها من السلع وصارت كلمة "دكان" من المفردات الجميلة التي أفقدنا إياها التطور، بل وصارت من التراثيات، فكثيراً ما كان يتردد على مسامعنا خلال الأغاني القديمة مثل: سيد المها واسمه ببعض الدكاكين أغلى قماشٍ بالدكاكين غالي علامات تجارية الملاحظ في المحال التجارية القديمة عند انتشارها خلوها من العلامات التجارية، أو الشعار الخاص بها، واعتمادها في لوحاتها على العلامات التجارية العالمية كالمشروبات الغازية أو الشاي أو الزيوت أو علامات السيارات لقطع الغيار مثلاً، ولم تظهر العلامات التجارية إلاّ منذ فترة قريبة، وذلك بعد التوسع في افتتاح هذه المحال والاحتكاك مع الموردين والشركات الأجنبية التي تعتمد علامة تجارية مميزة، فبدأت المؤسسات والشركات طريق العلامة التجارية الخاصة بها، والتي صارت تعلوا لوحاتها الدعائية، وصار لكل مؤسسة أو محل كبير شعار يستدل به المتسوق إلى سلعته بيسر وسهولة. خشب وصاج أول بداية تركيب اللوحات كان عن طريق لوح من الخشب يتم دهنه كلياً بالطلاء، ومن ثم يتم الكتابة عليه بقلم الرصاص في حروف كبيرة مجوفة اسم المحل ومحتوياته والتعريف بصاحبه، ومن ثم يتم ملء الفراغ في حروف الكلمات بالطلاء حتى تبرز الحروف كبيرة لكي يراها المتسوق من بعيد؛ لأنه كلما ارتفعت اللوحة صار حجم الكتابة فيها صغيراً، وبعد فترة استبدلت قطع الخشب ب"الصاج" من الحديد والذي يتميز بقوته وصلابته وتحمله لتقلبات الطقس من الأمطار وحرارة شمس الصيف الحارقة وثبات الألوان لسنين طويلة، بعكس الخشب الذي يبهت لون الكتابة عليه ويتطاير الطلاء بسبب مياه الأمطار وحرارة الشمس. قديمة وجديدة من اللوحات القديمة جداً والتي لا زالت تلقى الرواج بالرغم من قدمها هي لوحات "النحاس"، حيث تُعد من القديم المتجدد، كما راج استعمال لوحات "الاستانلس ستيل" والتي تفي بالغرض نفسه، وقد كان الخطاطون قديماً يتعاملون معها بالقص عن طريق الآلات اليدوية بعد عرض الأحرف بالفانوس ومن ثم تقطيعها، أمّا الآن فقد تبدل الحال وصارت تخط عن طريق "الكمبيوتر" وتقض ب"الليزر"، مما زاد الأمر سهولة ووفر الوقت والجهد والمال، وعلى الرغم من قدم هذه الطريقة في تنفيذ اللوحات إلاّ أنها لا زالت محتفظة بغلاء سعرها وسط ظهور أنواع جديدة من اللوحات الحديثة، حيث مازال لها عشاقها إلى اليوم وهي تعد بحق من اللّوحات الجميلة المتميزة على الرغم من قدمها. استخدام النيون بعد تطور أعمال الخطاطين ظهر نوع جديد من اللوحات أحدث صرخة ونقلة نوعية وزاد من إقبال أصحاب المحال التجارية على الخطاطين ألا وهو استخدام "البلاستيك"، والذي يسمونه الناس آنذاك "النيون"، ويتميز بقوته وشدة وضوح ألوان الكتابة عليه وصفائها، كما أن اللوحات يمكن أن تضيء ليلاً بعدما كانت اللوحات التي من الخشب وصاج الحديد صامتة وباهتة، كما ظهر نوع من اللوحات "البلاستيك" وهي تضيء بإضاءة حمراء متقطعة متصلة وعلى شكل سهم في اللوحة تشير إلى المحل الذي ركبت أعلاه، والحقيقة أن تلك اللوحات زادت من جمال المحال التي عملت على تركيبها، وزادت أيضاً من جمال الشوارع ليلاً والتي صارت كأنها درر تتلألأ. فلكس فيس ومن اللوحات الحديثة التي ظهرت بعد تقدم التقنية والصناعات هي لوحات "الفلكس فيس" وهي عبارة عن "رولات" من البلاستيك، لكنها أفضل من "النيون" وذلك بكونها أكثر شفافية من "البلاستيك" حيث تكون الإنارة داخلها أقوى وأوضح، ويتم عمل اللوحات إمّا عن طريق مادة "الفينيل" عن طريق القص واللزق، أو عن طريق الطباعة بالكمبيوتر، ومن ثم تثبيتها في صندوق اللوحة، وهذه التقنية الحديثة لازالت تستخدم إلى الآن وهي أكثر اللوحات شيوعاً في الوقت الحاضر، نظراً لرخص نوعها حتى مع ظهور نوع آخر من اللوحات أكثر تقنية ووضوحاً. لوحات عصرية مرّت اللوحات التجارية بالعديد من التطورات تدرجت خلالها بعدد من الأشكال حتى وصلت إلى أحدث التقنيات التي يشهدها العالم اليوم، والتي تواكب التطور والتقدم، حيث ظهر نوع حديث من اللوحات وهي "النيون"، والتي هي عبارة عن أنابيب "نيون" صغيرة الحجم مع "زنكور"، تعبأ بغاز ومن ثم تضيء وتأتي على طول المتر تقريباً، ويتم تشكيلها في معامل بها أفران خاصة عالية الحرارة، وتثنى حسب نوع الكتابة والحروف المراد تشكيلها باسم المحل، كما يمكن الرسم بها كذلك لتعطي المحل التجاري شكلاً ورونقاً أكثر جذباً للزبائن، ولكن يعاب عليها كثرة استهلاكها للكهرباء حيث يتم تركيب "تراسفور" بقوة (220 واط)، وتضيء بقوة خمسة عشر ألف شمعة، مما يجعلها شديدة الحرارة، حيث تتأثر بالأمطار فتنطفي جراء ذلك، ولحل هذه المشكلة تم الاستغناء تدريجياً عن هذه اللوحات باستخدام لوحات حديثة وهي لوحات "اللّيد" النقطية، وهي حروق ك"النيون" تضيء إلاّ أن إضاءتها ليست كالأنبوب الكامل الإنارة، بل يضيء بنقط صغيرة قريبة من بعضها بحيث لا يلاحظها من يراها من بعيد، وتمتاز هذه اللوحات الحديثة التي تعد آخر صيحات اللوحات الدعائية للمحلات التجارية عن سابقتها بأنها تعمل بكهرباء بسيطة عن طريقة تركيب "ترانس"، ولا تحتاج إلى قوة كهربائية، مما يجعلها باردة تماماً وآمنة، بحيث لا تسبب الحرارة العالية كالتي في "النيون" أخطار الحريق، التي قد نشبت في العديد من لوحاتها، فكبدت المحال وما جاورها خسائر فادحة. وقد اعتمدت العديد من الدول هذه اللوحات -اللّيد- في المحال التي تقع في "مولات" مغلقة وذلك لسلامة استخدامها وأمانها، وخلاصة القول إن عمل اللوحات التجارية قد تقدم كغيره من الأعمال وصارت حرفته سلسة وسهلة، ولم يعد الاعتماد الكلي على يد الخطاط، فقد صار الحاسب الآلي يؤدي مقام الخط باليد، وبشتى أنواع الخطوط، وصارت التقنية سمة مميزة في تنفيذ العديد من اللوحات الدعائية التي تشابه الأعمال الفنية الرائعة.
مشاركة :