ينشغل المحللون، عرباً وغرباً، باستقراء الشأن السعودي، تجمعهم «ثيمة» واحدة أن الرياض انكفأت إلى الداخل وانصرفت عن الخارج، وذلك كله بسبب موجة التنمية العريضة التي تستعجل القضاء على كل عوامل التأخير مهما كانت طبيعتها، وتشرّع بوابة عريضة للمستقبل مدارها الإنتاجية ورفع الكفاءة وتوفير الخدمات للمواطن، عبر خطة متماسكة يقوم عليها مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، الذي يشكّل علامة فارقة ونقلة غير مسبوقة في تحديث العمل الحكومي وتسريع إيقاعه وتحريره من قيود الشبكة البيروقراطية المتغلغلة، لتحصد الدولة ثمار إنفاقها الواسع وتقفز خطوات واسعة إلى الأمام في التنمية والخدمات. المتابعون لأداء هذا المجلس وديناميكيته في معالجة المشكلات، وتقديمه التوصيات العاجلة إلى الملك، يتناسون حقيقة أن السعودية لم يسبق لها أن كانت هامشية أو منغلقة بحكم مكانتها ودورها ومقوماتها المختلفة سياسياً واقتصادياً، وأنها اليوم هي القوة الفاعلة في المنطقة التي تعمل على إنقاذ ما تبقى من العالم العربي، وزيادة تماسكه وتحصينه من الانهيارات التي تتوالى على المنطقة مولّدة الفوضى والخراب. السعودية وقفت إلى جانب شعب مصر في كل وقت ولم تتأخر عنه يوماً، لذلك واصلت دعمها السياسي والمادي لخطوات الاستقرار في مصر، حتى أن آخر ما قدمته كان في مؤتمر شرم الشيخ حين أعلن ولي العهد الأمير مقرن بن عبدالعزيز تقديم 4 بلايين من الدولارات ودائع واستثماراً، هي جزء من العمل المستمر إلى أن يستقيم عود مصر وتنجو من الظروف والتهديدات التي تستهدف صمودها ودورها المحوري. الرياض هي المحطة الأبرز عالمياً في استقطاب القادة والزعماء، تتشاور معهم في محاربة الإرهاب وتحقيق الاستقرار وتعزيز التضامن، في جهد استثنائي لخّصته وحدّدت ملامحه كلمة الملك سلمان التي كانت إعلان توجهات وخطة عمل ترسم رؤية المملكة في شؤونها الداخلية والخارجية. يمكن القول إن الملمح اللافت في السياسة السعودية، أنها تركز على نقاط الاتفاق والعمل المشترك، باعتبار التباين مسألة طبيعية لا يمكن تجاوزه، إلا أنه لا يسد الطريق ولا يجمد الحركة، فهي تحترم هامش الاختلاف وتقبل به، لأنها تدير عملية تماسك تقتضي البدء بالمتفق عليه والعمل به ما لم يكن الاختلاف يصطدم بحاجز سعودي ثابت، ومن المؤكد أنها حرّكت الراكد في المنطقة وأحدثت نشاطاً وحيوية لم يكونا موجودين من قبل، من خلال سلسلة اللقاءات التي أجراها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان في الأسابيع الماضية، التي لم ينقطع مدها أو تتوقف حركتها. توقن الرياض أن دورها لا يقتصر على تحقيق التوافق المقبول فقط، بل يتسع لتكون مركز مصالحة واجتماعاً للجهود وتقريب وجهات النظر حتى لا تكون الخلافات سمة المنطقة وتقضي على الجهد المشترك، فتضيء لكل طرف نقاط التوافق تحت ركام التجاذبات. الرياض، اليوم، في جوهر كل قضية تمسّ المنطقة، وتدير سياسة قوية ذات أهداف واضحة بسرعة وحماسة أحدثت انفراجات شتى في المنطقة، وبثّت روح التفاؤل عربياً وإسلامياً، فكأن المنطقة تشهد يقظة جديدة ووعياً مستشعراً حجم الأخطار والتهديدات. المتكئون على نظرية الانكفاء إما لا يعرفون ما يحدث وإما يكرهون حدوثه، لكن الأماني لا تغيّر الواقع ولا تبدّل مجرى الأحداث، ومن ينتظر قليلاً سيجد أن الانكفاء مجرد وهم ربما يتمناه البعض.
مشاركة :