الموظف الحكومي من حقه الغياب لأنه لم يعين أصلاً وفق اشتراطات معينة، ولعله يمضي عمره الحكومي من دون أن يعرف مهماته. إن بذل الجهد وأظهر الإخلاص فلن ينال تقديراً، لأن وزارة الخدمة المدنية عمياء تنظر إليه باعتباره رقماً يستحق الترقية بعد ثلاثة أعوام إن توافرت المرتبة الشاغرة، كما أن عليه أن يعيش حالة من «الشتات» إن أراد أن يجمع مراتب كثر يرتاح إليها بعد التقاعد. هذا الديوان لا يعرف معنى الجدارة والإنتاجية، ولا يفرق بين الموظف النشط والكسول، فالأقدمية هي الأساس، لذلك فإن خطة الموظف الحكومي أن يبقى طويلاً في عمله بكل وسيلة ممكنة إلى يحصل على التقاعد. الموظف الحكومي مستنسخ في كل مكان من دون تمييز، فهو يحصد الراتب ذاته، سواء أكان عمله بجوار الحرم المكي حيث يفشل أن يجد غرفة تؤويه وأسرته إلا إن كان له دخل إضافي، أم كان في قرية صغيرة يستطيع أن يبني فيها بيتاً فسيحاً بالمبلغ ذاته. ليس للموظف الحكومي بدل سكن على رغم الغلاء الفاحش، وراتبه ساكن سكون الموتى على رغم حرائق التضخم. العلاج غير متاح له لأن مستشفيات «الصحة» نسخة أخرى من الفوضى والضياع، والمواعيد تراهن على أن الموت ربما يجيء أسرع منها. بدل النقل لا يفرق بين الرياض وأصغر هجرة لا تتعدى المسافة فيها مترين فقط. الموظف الحكومي مغلوب على أمره، فلا حقوق له وإن كانت واجباته تتنامى، مثل مساجين الأشغال الشاقة، فلا أحد يعينه على مدارس قريبة لأولاده، ولا يدفع له بدلاً من أجل سائق، ولا نقل مدرسياً متوافر، فمن سيأخذ أولاده للمدارس ويعيدهم ما لم يكن لديه مصباح سحري يستدعي العفاريت لخدمته؟ معظم مكاتب العمل الحكومي متهالكة، حتى إن بعضها ليشبه ساحات الحراج لكثرة أنواع المكاتب والكراسي وأشكالها، ومعدومة الخدمات، ولا مواقف قربها، وسيئة التكييف. المسؤولون الذين يتهددون الغائبين بالعقوبات يأتون في المقدمة، لأنهم يرون أن الالتزام من سلوكيات الضعفاء والمهمشين. السعوديون ليسوا كسالى وغير منتجين، كما هي الصورة النمطية عنهم، فالشركات والبنوك تزدحم بالمنتجين الذين يبذلون جهدهم لرفع قدراتهم، لأن القطاع الخاص ينمي التنافسية ويقدر الجهد ولا يتلاعب بالمعايير. النموذج الأبرز هو «أرامكو» التي تحتضن آلاف السعوديين الذين انقطعوا إلى العمل كلياً، مع أنهم لا ينحدرون من ثقافة اجتماعية واحدة. هم لا يحبون الكسل لأن المكتبات الكبرى والمطاعم المتخصصة والأسواق ملأى بشباب يعملون في كل الوظائف. في القطاع الحكومي من الشائع غياب اليوم الأخير قبل الإجازة واليوم الأول بعدها، حتى إن الرقابة والتحقيق التي ترسل مخبريها للتأكد من حضور الموظفين تحتاج فريقاً آخر لضمان حضور مراقبيها ومفتشيها. أما التأخر والتسرب والغياب المتقطع، فهي عادة سلوكية ثابتة تشمل المدنيين والعسكريين. التهديد بالفصل والحسومات لن يحسن الإنتاجية ولن يغير العادة، لأن مفهوم مراقبة الموظفين مقتصر على الصغار من دون الكبار، ولأنه لا يؤسس لحوافز تجعل الوظيفة مغرية وتمنح الفرد الشعور بالإنتاجية والتميز. المشكلة في الأنظمة وليست في الناس. الحل هو تحويل السعوديين إلى القطاع الخاص، واستعانة الحكومة بالأغلبية من غيرهم، لأن عملها لا يقتضي مهارات عالية، باستثناء القطاعات الحساسة. حين يحتوي القطاع الخاص السعوديين سيجدون التدريب والحوافز والبدلات ورسوم المدارس والعلاج الطبي، وكلها مغانم ترفع قدرهم وتغنيهم عن الحاجة والبحث عن مداخيل أخرى، مع إعادة تصنيف الوظائف الحكومية لتكون مستويين، الأعلى منهما للسعوديين، حينها ستوفر الحكومة جزءاً كبيراً من موازنتها، ويحظى مواطنوها بوظائف لائقة وتدريب مستمر. تحولت «الخدمة المدنية» إلى وزارة كاملة، ومع ذلك لم يتجاوز دورها إعلان الوظائف الشاغرة، تماماً كما هو حال وظائفها، مع أن قدوم الدكتور عبدالرحمن البراك إليها فتح نافذة تفاؤل أغلقها سراب الانتظار، فهل من خطة عمل تبرر تحويلها إلى وزارة؟ وهل من حركة تعلن صورتها الجديدة؟ أم أنها ستظل بوابة إعلان لا فرق إن جاء من ديوان أم وزارة؟
مشاركة :