يمثل المجتمع الجزائري بتحولاته الكبرى شاغلا رئيسيا لدى عزالدين جلاوجي، فمن خلال روايتي “حوبة ورحلة البحث عن المهدي المنتظر” و”الحب ليلا في حضرة الأعور الدجال” اهتم برصد تلك التحولات، ويُبين الكاتب أن العملين جاءا في إطار مشروع ضخم أراده في سداسية، ترصد التحولات الكبرى التي حدثت في المجتمع الجزائري منذ 1830 إلى يومنا هذا، وقد أنجز جزئين في 1200 صفحة ويأمل أن يُكمل ما تبقى من أجزاء، ولأن الرواية هي الحياة على حد قول أندريه جيد فكتابة الرواية التاريخية هي إعادة تخييل الحياة الماضية، لتكون الحادثة التاريخية جزءا ضئيلا منها فقط قد لا تعنينا بالأساس، لأننا نكون ملزمين بتاريخ الحياة ككل الاجتماعي والنفسي والثقافي والفكري، وبقدر ما يكون الهدف كتابة تاريخ المجتمع فنيا وجماليا ليبوح لنا بأسراره كون الرواية التاريخية تتفوق على التاريخ ذاته. يرى جلاوجي أن كاتب الرواية التاريخية يتفوق على المؤرخ، فكتابة الرواية التاريخية تتجه نحو المستقبل ولا يعنيها الماضي إلا في علاقته بالمستقبل، إضافة إلى أن التاريخ الجزائري زاخر جدا طالما أهمله الفن عموما كالمسرح والسرد والفن التشكيلي والسينما، والعودة إلى هذا التاريخ ضرورة فنية جمالية وضرورة وطنية قومية، واللمسة الفنية التي يملكها الأديب بسحر الكلمة وسحر البناء هي ما يجعل النص مغريا ومشوقا.مسرح اللحظة المسردية أو مسرح اللحظة مصطلح جديد أسس له جلاوجي عبر عدد من الكتابات التي لاقت احتفاء نقديا واسعا.. يشير الكاتب إلى أن دافعه الأساس لذلك التأسيس هو الرغبة في التجريب وتجاوز السائد والمألوف، ثم ما عاناه النص المسرحي من طعنات، النص الذي يكتبه الأدباء، على مستوى الخشبة، والذي يعتبر دوما عنصرا ثانويا لصالح الخطابات الأخرى، خطاب المخرج، وخطاب الممثل، وخطاب السينوغراف، بل قد يصل الأمر ببعضهم إلى اعتباره أدبا ولا علاقة للأدب بعالم الركح/الفرجة، وعلى مستوى التلقي القِرائي لم يعتبر أدبا وإنما اعتبر نصا كتب للخشبة لا للمسرح، ومع هذا التطارد صار النص يتيما، قد يعرض على الخشبة المرة والمرات مُزَاحَما بخطابات مختلفة تغرقه وتبتلعه ثم يُرمى به في دهاليز النسيان. يتابع جلاوجي: ثبت لي ذلك من خلال النصوص التي كتبتها، ففي الوقت الذي شهدت فيه رواياتي إقبالا كبيرا قراءة ونقدا ظل الإقبال على نصوصي المسرحية شحيحا، والأمر ذاته بالنسبة لعموم نصوص المسرح حتى التي كتبها كبار الأدباء، لا نرى إقبالا على اقتناء النص المسرحي وقراءته ونقده، إننا نسأل المئات من الطلبة في الجامعات ماذا قرأوا من نصوص لشكسبير وبريخت وإبسن والحكيم وونوس وبرشيد والمسعدي والمدني، ونفاجأ بالتصحر، رغم أنهم يعرفون كل هؤلاء. هذا بالنسبة للمسردية والمسردية القصيرة جدا، وقد قمت فيهما بهدم الشكل التقليدي لهندسة النص المسرحي وإعادة بعث بشكل جديد فيه عبقرية السرد وإكسيره دون أن أخدش كبرياء المسرح ودون اغتيال روحه، بل إن المتلقي قراءة لا يرى نفسه بصريا على الأقل إلا أنه في مواجهة نص سردي، رغم أنه نص مسرحي في جوهره، يمكن أن نأخذ بيده أو يأخذ بأيدينا إلى الركح، مع ملاحظة أني أضفت مصطلح مسرح اللحظة لمصطلح مسردية قصيرة جدا، ورفعت له شعار “مسرح اللحظة، مسرح الإنسان أينما كان وكيفما كان” كونها نصوصا مكثفة لغة وشخصيات وسينوغرافيا يمكن أن تقدم في دقائق داخل الأسرة أو الحي أو القطار والطائرة تعرض لفكرة جوهرية عميقة، تفتح باب الأسئلة باستفزازنا دون أن تقدم إجابة. النقد والإبداعكان ولوج جلاوجي إلى عالم الكتابة الإبداعية عبر القصة القصيرة وتحديدا مجموعة “لمن تهتف الحناجر؟”.. يقول الكاتب: لا أعرف بالضبط ما الذي دفعني آنذاك إلى عالم القصة بالذات دون الرواية، وهل كنت واعيا بذلك أم لا، ربما لم يكن سوى أنها متاحة للنشر عبر الصحف ولم نكن نحن أبناء الداخل/العمق على معرفة بعالم النشر والطباعة، لكن ما أؤكده أنها بما تملك من خصائص التكثيف تدريب شاق لنا، إن من يحسن السباحة في الفجاج والمنعرجات الجبلية الضيقة يقينا يحسن السباحة في الشواطئ الهادئة، وقد كتبت إلى جوار القصة الشعر والمسرح، وكان كل ذلك خزانا أخذ بيدي لكتابة الرواية، ورغم تجاوزي لتجاربي الأولى مازلت أنظر إليها بتقدير كبير، إن التجريب هو أن تتجاوز تجارب سابقة عليك، ولكن أيضا هو أن تتجاوز تجاربك السابقة، لتقدم دوما إضافة لغيرك ولنفسك. اهتم جلاوجي بالكتابة للطفل في منجزه الإبداعي، إذ صدرت له أربعون مسرحية وست قصص، حظيت باهتمام النقد في الجزائر خاصة المسرح منها، ويعتقد الكاتب بأن ما قدمناه في ثقافة الطفل في العالم العربي عموما مازال دون الحاجة ودون المستوى، ربما يعود ذلك لصغر عمر التجربة في الوطن العربي، أو لاعتقادنا أن أدب الطفل مواعظ وإرشادات، أو لاستسهال ذلك فتصدى له كل من هب ودب، أو لضعف المستوى والتكوين، ومن ثم فهناك حاجة إلى إعادة النظر في الموضوع، وإلى استحداث مراكز بحث ومتابعة تهتم بذلك. تتوازى مع التجربة الإبداعية لجلاوجي تجربة نقدية ثريّة، ويؤمن الكاتب بأن المبدع ابن ما يقرأ وابن تجاربه ورحلاته وعلاقاته وتأملاته، والاشتغال الأكاديمي قراءة وتدريسا وتأليفا له انعكاس كبير على نص المبدع، وهو انعكاس ذو شقين، بقدر ما يكون قيدا يكون منارة، وعلى المبدع الحق أن يجمع بين الأمرين معا، يحافظ على لمسته الإبداعية التخييلية حرة مرفرفة مدهشة، ويرشّدها في الآن ذاته بما امتلك من معرفة ووعي لا أن يسقط أسير ذلك، إن الكتابة اليوم لم تعد تعتمد الموهبة فحسب، بل صارت صناعة ومعرفة وثقافة. مستويات التلقييكتب جلاوجي لقراء افتراضيين، ومن ثم فاحتراما لهم يتوجب على الكاتب أن يرقى بنصه ما استطاع، ويحقق فيه شرطين أساسيين في نظره؛ الجانب الجمالي الفني للارتقاء بروح المتلقي ومشاعره وأحاسيسه وأخيلته، والجانب المعرفي، مما يحتم القراءة الدائمة والبحث الدؤوب والنحت العميق، فعلى المبدع أن يكون عميقا راقيا لأن القارئ اليوم صار كذلك عميقا راقيا مثقفا عارفا يتلمس النص الراقي العارف، وأي استهتار بالمتلقي سيدفع ثمنه النص إهمالا وإقصاء، غير أن المشكلة التي تعترض المبدع هي كيف يجمع إليه كل خيوط اللعبة فيتمكن من إقناع كل مستويات التلقي، كيف للنص أن يتلقاه القراء على اختلاف مستوياتهم ثم يجد فيه كل منهم ضالته، ويقينا هذا لا يتأتى إلا للنصوص الكبيرة. ويرى جلاوجي أنه ليست مهمة المبدع كسر الطابوهات، وخاصة ما اصطلح عليه الثلاثي المحرم، المبدع مهمته أن يقدم نصا شهيا مغريا راقيا مدهشا عارفا محققا مستفزا، ثم إذا اقتضى الفن والسياق أن يفعل ذلك في الطابوهات فلا مانع ما لم يقصد إليه قصدا بغية تحقيق الالتفات والانتشار، وبالعودة إلى النصوص العالمية الخالدة في كل الحضارات لم يكن هذا همها الأساس، يمكن أن تكسر الطابو بحركة أو بلباس أو بخطبة أو مقالة، وقد لا يكون هؤلاء مبدعين، تشتغل كثير من النصوص على ذلك إرضاء لجهات ما بغية الانتشار أو الجوائز أو بغية أن يحصلوا على شهادة التفرد والتميز، فكانت كتاباتهم مجرد بيانات سياسية، أو مشاهد إيروتيكية، أو خطابات تمردية. ويستطرد: لا يمكن في تصوري أن يخلو المبدع من رقابة يمارسها على ذاته، شرط أن تكون نابعة من قناعاته، لا من دكتاتورية حاكم أو مجتمع أو رجل دين، بل أتصور أن أكبر رقيب هو الفن في حد ذاته ليظل مشرئبا لقيم الخير والحب والجمال، نائيا عن الأحقاد والسفاسف والقيود، وهو ما اشتغلت عليه في نصوصي الروائية والمسرحية والقصصية، لأني أردتها أن تكون صوت الإنسان في كل تجلياته ووضعياته، أردتها صرخة في وجه الظلم والانحطاط والطبقية والعنصرية، أردتها بلسما للجراح والكلوم والأحزان. الارتقاء بالإنسانيشير الكاتب إلى أنه مشغول في كل أعماله بالإنسان، لأنه مقتنع تماما أن الآداب من أهم وسائل الارتقاء بهذا الكائن، ولذا فنصوصه تشتغل على شقين شق الفن وشق الرؤية، كيف نقدم ما يرتقي بالإنسان في ذوقه وفكره، كيف يمكن للآداب أن تحقق ثلاثية الخير والحب والجمال، ودون هذه في تصوره لا معنى للإنسان، ولا معنى للأدب والفنون، وفي ظل ما يعانيه الإنسان الآن من انتكاسات حيث تفشت العنصرية والعصبية والحروب والفتن، يجب على الفنون والأدب منها بخاصة أن تقول كلمتها، فهي خلاصنا مما ينتظر البشرية، الكتابة هي الخلاص على المستوى الفردي والمستوى الجمعي. يرى جلاوجي أنه لا يمكن للأدب والفنون عموما أن تنطلق من غير الواقع، ثم هي بعد ذلك يجب أن ترتقي عليه، وتظل تحلق ما استطاعت لها عبقرية الإبداع، فالكتابة ليست مجرد تهويمات وخزعبلات لا تستقر على ساحل من فكر ورؤية وفلسفة، بل يجب أن يكون مدارها الرقي بالإنسان والحياة، وليس ثمة تناطح بين العالمين كما هو متجل في كثير من الفلسفات حتى تعددت بها السبل، حيث قفزت الواقعية من الواقعية النقدية حتى الواقعية الجديدة والواقعية النقدية المعاصرة، والواقعية السحرية، والأمر ذاته بالنسبة للمثالية منذ أفلاطون إلى يومنا هذا، وإنما هو هذا التلاحم والتناغم الذي تتكامل فيه الواقعية والمثالية وتتعانقان، وهو ما يجب أن تنهض عليه آدابنا ونحن نبحث عن مشروع يمثلنا.
مشاركة :