في تحول سياسي مرتبط ارتباطا وثيقا بالخلاف بين الاتحاد الأوروبي وإدارة الرئيس دونالد ترمب، صرحت حكومة أنجيلا ميركل الألمانية مؤخراً بأن على الاتحاد الأوروبي أن يتفاوض ضمن تكتل مشاركته في المبادرة الصينية لإعادة إعمار "طريق الحرير" القديم، وهو أكثر مشاريع البنية التحتية الضخمة طموحًا في العالم، ويهدف إلى إعادة تصميم الجغرافيا الاقتصادية العالمية وإعادة تأكيد صعود العملاق الآسيوي إلى وضع القوة العظمى، كما تقول صحيفة إل تريبونو الأرجنتينية. وأوضح وزير المالية الألماني، بيتر ألتماير، أن "الدول الأوروبية الكبرى وافقت على أننا لن نوقع مذكرات منفردة، بل ستكون بين الاتحاد الأوروبي والصين". جاء هذا التأكيد مُتقاطِعًا مع قرار إيطاليا، أول دولة من مجموعة السبع التي انضمت حكومتها رسميًا إلى مبادرة حصلت سابقًا على دعم 12 شريكًا آخر من شركاء الاتحاد الأوروبي الثمانية والعشرين: بلغاريا والمجر واليونان والبرتغال ومالطا وجمهورية التشيك وكرواتيا وإستونيا وليتوانيا ولاتفيا وسلوفاكيا وسلوفينيا. صرَّح الوزير الألماني ألتماير بهذه التصريحات في المؤتمر الدولي حول هذا الموضوع في بكين في الأيام الماضية بين الرئيس شي جين بينغ و37 رئيس دولة وحكومة من جميع أنحاء العالم، بمن فيهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والتركي ورئيس تشيلي، سيباستيان بينييرا، وكذلك رئيس الوزراء الإيطالي، جوزيبي كونتي، ومسؤولين من الدول الأخرى، الذين اعتبروها خطوة أساسية إلى الأمام في تنفيذ المبادرة الضخمة المسماة "حزام واحد، طريق واحد". ما بدأ في عام 2013 بخطاب ألقاه شي جين بينغ، أصبح مشروعا ينطوي على ثورة في مجال البنية التحتية لنقل البضائع ويمثل حافزاً هائلاً لعملية عولمة الاقتصاد، والتي لن تكون الولايات المتحدة صاحبتها، بل الحزب الشيوعي الصيني. الصين، حضارة الألفية، لها ذاكرة تاريخية طويلة. يتذكر حُكَّامها أنه منذ أكثر من ألفي عام، قام التجار، على ظهور الجمال، بتأسيس طريق اتصال، عبر آسيا الوسطى والشرق الأدنى، للسماح بتبادل المنتجات بين الشرق وأوروبا. استكشف تشانغ تشيان، مبعوث الإمبراطور بين عامي 138 و115 قبل الميلاد، هذه المناطق الهائلة، إذ يُعتَبَرُ في الصين الأب لفكرة طريق الحرير. وفي خطاب 2013، استحضر شي جين بينغ رَحَلاتِهِ لصياغة مشروعه الجديد. كل الطُّرُق تُؤَدِّي إلى الصين ولكنَّ بكين أضافت هذه المرة إلى هذا الطريق البري الأصلي الأسطوري-الذي أُعيد تسميته "الحزام الاقتصادي لطريق الحرير"-طريقًا بحريًا باسم "طريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين، للذهاب إلى إفريقيا، وآخر عبر المحيطات، للربط بأمريكا الجنوبية وإنشاء خط للسكك الحديدية لربط المحيط الأطلسي بالمحيط الهادي. سوف تنتشر على طول الطرق التي تم فيها تسويق التوابل والشاي والخزف والذهب والفضة منذ قرون، القطارات فائقة السرعة مع سيارات الشحن في المستقبل، النفط والغاز (من خلال خطوط أنابيب النفط والغاز العملاقة) والسفن التي ستنقل جميع أنواع البضائع. وتهدف الاتصالات المخطط لها في عام 2030 إلى تضمين المناطق التي تضم 65% من سكان العالم، وتنتج 55% من إجمالي الناتج العالمي وفيها 70% من احتياطي الطاقة المعروف. إجمالي الاستثمار المُقَدَّر لا يقل عن 8.2 تريليون دولار، وهو رقم فلكي. على سبيل المقارنة، تجدر الإشارة إلى أن "خطة مارشال"، لإعادة إعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، كَلَّفت، بالقيمة الحالية، 130 مليار دولار. وفقا لشياو وي مينغ، المسؤول الصيني المُكَلَّف بالبرنامج، استثمرت الصين 80 مليار دولار في مشاريع مختلفة. هناك بالفعل 1401 مشروع قيد التنفيذ (ثلثاها في آسيا الوسطى) باستثمار 37 مليار دولار. تتفاوض الحكومة الصينية حاليا مع عشرين دولة، على بناء 5000 كيلومتر من السكك الحديدية عالية السرعة، باستثمارات تقدر بـ 160 مليار دولار. في كتابه "الحلم الآسيوي للصين: بناء الإمبراطورية من خلال طريق الحرير الجديد"، حدد الخبير البريطاني توم ميلر، الروح الاستراتيجية للمبادرة: "عبر ربطٍ أفضل، بإنشاء شبكة تجارية تجعل جميع الطرق تؤدي إلى الصين". وفي الخطاب الراقي لبكين، تم تسويق المشروع على "بنية التعاون الاقتصادي الإقليمي المفتوح والشامل والمتوازن الذي يفيد الجميع". ولتحقيق هذه الغاية، شَدَّدَ على خمس نقاط يتعين على جميع البلدان المشاركة إكمالها: تعزيز التعاون الاقتصادي مع الشركاء الآخرين، وتحسين الربط بين البنى التحتية الخاصة بكل منها، والحافز على الاستثمار والتبادل التجاري، وتشجيع التكامل المالي، وتعزيز الروابط الشخصية بين المواطنين. أرض متنازع عليها من التفاصيل المهمة، التي تبعث على القلق البالغ في واشنطن وتفتح نزاعًا جيوسياسيًا صامتًا، أن هذا الإصدار الجديد من طريق الحرير يشمل الآن أميركا اللاتينية، وهي منطقة لم تندرج ضمن المشروع الأصلي. كانت بنما أول دولة في أميركا اللاتينية تنضم للمبادرة التي حصلت فيما بعد على دعم من تشيلي وبيرو والإكوادور وأوروغواي وكوستاريكا وفنزويلا وكوبا. وفي مؤتمر صحافي عُقِدَ خلال إقامته الأخيرة في بكين، ذهب بينييرا إلى أبعد من ذلك في التعبير عن النوايا التشيلية: "نريد تحويل شيلي إلى مركز أعمال للشركات الصينية، بحيث يمكنكم الوصول، من تشيلي، إلى أميركا اللاتينية أيضًا". تجدر الإشارة إلى أن تشيلي كانت أول دولة في الغرب توقع اتفاقية تجارة حرة ثنائية مع الصين، والتي تعد اليوم الشريك التجاري الرئيسي للبلد الأنديزي. على أي حال، لم تنجح بكين حتى الآن في التقدم مع أي من اقتصادات أميركا اللاتينية الثلاثة الرئيسية: البرازيل والمكسيك والأرجنتين. بالنسبة إلى الثلاثة، تميل القضية إلى أن تصبح مفترق طرق استراتيجي حقيقي مع تداعيات اقتصادية وسياسية هائلة. في البرازيل، يثير المشروع نقاشًا داخل فريق بولسونارو، بين الحاجة الى سياسة المواءمة مع واشنطن وبين المصالح الاقتصادية لتعزيز العلاقات مع بكين. في المكسيك، أصبحت ورقة مساومة لأندريس لوبيز أوبرادور في المزايدة مع ترمب. وفي الأرجنتين، المشروع يمثل معضلة تتجاوز فترة الرئاسة الحالية لماوريسيو ماكري.
مشاركة :