مدينةُ الكلمات لألبرتو مانغويل

  • 3/21/2015
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

قدَّم ألبرتو مانغويل في كتابِه مدينة الكلماتِ خمسَ محاضراتٍ ألقاها عام (2007)، تلخِّصُ نظريته لفهم القاسِم المشترك بين البشر، عبْر كلِّ العصور، وفي كل الأماكن، من خلال اللغة. وذكر أنه بنهاية عصر القومياتِ العِرقية ظهرت المجتمعاتُ التي تعزِّز القوميةَ المدنية، وتتبنى نظمًا لقِيم مقبولة عالميًّا. ولكن الأمر يبدو وكأنه اتخذ منحى غير متوقَّع؛ يتمثلُ في المشاكل التي تبرزُ مع ظهور المجتمعاتِ الجديدة؛ مثل الظواهر السلبية الناتجة عن تعدُّد الثقافات، كأعمال الشغَب العِرقية في فرنسا، والاغتيالات السياسية في هولندا، والتفجيرات في بريطانيا، مما وضَع السياسيين وعلماءَ الاجتماع في حيرة، وتَساؤُل.. لماذا صار مِن الصعب جدًّا على الناس أن يعيشوا معًا في ظلِّ هذه البدائل القاتمة؟ وهل طغى الدمُ على التعايش السلميِّ في كوكب الأرض؟ وقدَّمَ مانغويل نهجًا مختلفًا، حيث يقول: انظُر إلى ما يقوله الكُتّابُ؛ فربما تخبركَ الكتبُ والقصصُ عن مفاتيح سرية لقلبِ الإنسان، تلك المفاتيح التي لم يرَها المنظِّرون الاجتماعيون. لماذا نحن معًا؟ وإنما أكتبُ لكَ من كلّ بابٍ طَرفًا؛ لأنَّ إخْراجَكَ مِن بابٍ إلى بابٍ أبْقى لنشاطِكَ، ولو كتبتُه بكمالِه لكان أكملَ وأنبلَ، ولكن أخافُ التطْويلَ، وأنت جديرٌ أنْ تعرفَ بالجملةِ التفصيلَ، والآخرَ بالأول. (الجاحظ، كتاب الحيوان) بعد الحربين العالميتين اللتين نشبتا في القرن الماضي، تمخضَ ظهورُ دول وسقوط أخرى عن ظهور اثنين من قُوى الدفع المتعارضة، قامت إحداهما على تعظيم مفهوم المجتمع، والعودة إلى شكلٍ متغير من النموذج الاستعماري تحت ستار جمْع الدول، وسُمي هذا الخليط بأسماء متعددة: العالم الغربي، وجامعة الدول العربية، والكونفدرالية الأفريقية، والبلدان المطلة على المحيط الهادئ، والمخروط الجنوبي في أمريكا الجنوبية، والاتحاد الأوروبيِّ. أمَّا القوة الأخرى، فقد قلَّصَت القاسمَ المشترك بين حدود المجتمعاتِ إلى حدِّه الأدنى، فاختصرته في المستوى القَبَليِّ - إنْ لم يكن العائليّ - استنادًا إلى جذور قديمة عِرقية أو دينية مثل: ترانسدنستريا في أوروبا الشرقية، ومنطقة إقليم الباسك في إسبانيا، والكيبيك الكندية، ومجتمعات الشيعة أو السُّنة، وكوسوفو. في كلتا الحالتين: المركَّبة أو المفردة، أخذَ كلُّ مجتمع يسعى لتحديد هويته برؤى متعدِّدة ومعقَّدة، سواء في الدفاع عن حدوده أو في مواجهته للآخر، وإعادة تحديد مفهوم الْجَمَاعَة بما يشبه الدوائر في نظرية مجموعة الأرقام، التي تتداخل وتتقاطع فيما بينها. فوقَعت بين الهوية الوطنية والهوية العالمية، وبين الولاءاتِ الوطنية والهجرة الاختيارية أو القسرية، وأصبح مفهومُ الهوية والشخصية الاجتماعية واسعًا ومشوَّشًا. ومع هذا التغير اللانهائي، هل ستكون التسمية التي سنطلقها، فرادى في جماعات؟ كيف يمكنُ للتفاعل مع الآخرين أنْ يحدد هويتنا وهويَّة مَن حولنا؟ وما نتائج العيش في مجتمع زاخر بالتحدياتِ والمسؤولياتِ؟ ماذا يحدثُ للغة التي نتكلم بها، والتي من المفترض أنها تسمح لنا بالتواصل فيما بيننا؟ بعبارة أخرى: لماذا نحن معًا؟ عندما ذكرتُ لـرونالد رايت [مؤلف كندي] - صاحبِ المحاضراتِ الرائعة حول مفهوم التقدم قبل بضع سنوات- أنَّي أفكر أنْ أُطلِقَ سؤالَ لماذا نحن معًا؟ عنوانًا لمحاضراتي، كان ردُّه: وهل هناك بديل آخَر؟! بالطبع ليس هناك بديل أفضل أو أسوأ؛ فالإنسانُ مخلوقٌ اجتماعيٌّ، يشقى أو ينعم بمهمة العيش مع الجماعة. في الواقع أنا لم أقصد بسؤالي أنَّ هناك بديلًا، بل هو محاولة لمعرفة بعض فوائد ومساوئ التعاون والعمل الجماعي، وكيف نستطيع صياغةَ هذا التعاون المنشود في كلماتٍ. إنها مجموعةٌ من الأسئلة العميقة، والملاحظاتِ الدقيقة، وموضوعُ هذه المحاضرات هو اعترافي بالحيرة! فلقد اكتشفتُ مع مرور السنين عدمَ إلمامي بمجالاتٍ كثيرة من المعرفة - كالأنثروبولوجيا، والإثنولوجيا، وعلم الاجتماع، والاقتصاد، والعلوم السياسية، وكثير غيرها - من علوم تتعاظم أهميتُها مع الزمن. وفي الوقت نفسه، اكتشفتُ أنَّ ممارستي طوال حياتي للقراءاتِ العشوائية جعلتني أميلُ إلى الكتبِ التي أجد في صفحاتها أفكاري الخاصة في كلماتٍ وضعها الآخرون. وأشعرُ بالراحة في عالم القصص، حيث إنها - بخلاف الكتب ذاتِ الطابع العلميِّ البَحت - لا نتوقعُ منها (الرفض، في الواقع) أو أجوبة واضحة، ويمكنني أنْ اخوض في هذه المناطق دون الشعور بالخوف، أو طلب الحلول أو المشورة. ربما كان هذا هو السبب في التحيُّز - غير المرَضِي - إلى القصص؛ لأنَّ أسئلتي يجب أنْ تظل في نهاية المطاف أسئلةً، مثل: لماذا نسعى لتعريف الهوية في كلماتٍ؟ وما دور راوي القصة في هذا المسعى؟ كيف تحدِّد اللغةُ، وتحدّ، أو تعظِّم تخيلنا عن العالم؟ وكيف يمكن للقصص التي نقولها أنْ تخبرنا وتساعدنا في إدراك أنفسنا والآخرين؟ وهل يمكن لمثل هذه القصص أنْ تضفي هويةً على المجتمع بأسْره، صحيحة كانت أم خاطئة؟ وفي النهاية، هل تستطيع القصصُ أنْ تغيرنا وتغيِّر العالمَ الذي نعيشُ فيه؟.

مشاركة :