في الحادي عشر من شباط فبراير 2014، عقد الزعيمان القبرصيان، اليوناني نيكوس أناستاسيادس، والتركي درويش أروغلو، اجتماعاً هو الأول من نوعه منذ عامين. وتلت ممثلة الأمم المتحدة، رئيسة البعثة الدولية في قبرص، ليزا باتنهايم، بياناً مشتركاً بعد الاجتماع، جاء فيه أن الطرفين يهدفان إلى التوصل إلى اتفاق شامل حول القضايا المختلفة، والشروع في تنظيم استفتاءين منفصلين حوله. وقال البيان إن التسوية في حال تمت الموافقة عليها ستكون على أساس "دولة فدرالية بمجموعتين ومنطقتين"، تشكل فيها قبرص "كياناً قانونياً موحداً على الصعيد الدولي ذات سيادة واحدة"، على أن يتم تحديد اختصاصات الحكومة وجزئي الدولة خلال المفاوضات الجارية. وأعلن المتحدث باسم السلطات القبرصية اليونانية، خريستوس ستيليانيدس، أن كبيري المفاوضين سيقومان بزيارة إلى كل من أنقرة وأثينا لدفع العملية التفاوضية. وكانت الأمم المتحدة قد تمكنت في أواخر العام 2011 من إقناع القبارصة الأتراك واليونانيين باستئناف الحوار الخاص بسبل إعادة توحيد الجزيرة. وغادر القبارصة الأتراك المفاوضات، في صيف العام 2012، احتجاجاً على تولي القبارصة اليونانيين الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي. ولاتزال هناك ثلاث قضايا عالقة بين الطرفين. وهذه المسائل هي: طريقة إدارة الدولة الفيدرالية القادمة، وتحديد مستحقي الجنسية القبرصية، ومصير ملكية الأراضي والعقارات التي خسرها الأفراد نتيجة التقسيم. وفي السياق العام للمقاربة، يُمكن الوقوف على ثلاثة عوامل طرأت على البيئة السياسية والأمنية لجزيرة قبرص، وهي: قضية التنقيب عن النفط والغاز في شرق البحر الأبيض المتوسط، والأزمة المالية في الشطر القبرصي اليوناني، وتصاعد الأحداث في سورية، وما جلبته من ضغوط أمنية وإنسانية على الجزيرة. ويبقى التطوّر الأكثر تأثيراً في مسار الأزمة هو ذلك المتعلق باكتشافات النفط والغاز، إن بمعيار الحسابات الخارجية أو المحلية، وخاصة لجهة شعور القبارصة الأتراك أن نظراءهم اليونانيين يتجهون لاستغلال هذه الثروة من جانب واحد، وحرمانهم منها. وهذا الشعور تشاركهم فيه تركيا، التي أوضحت بأنها لن تقف مكتوفة الأيدي حيال التطورات الجارية. وترى أنقرة ان قبرص اليونانية لا يمكنها المضي قدماً في التنقيب ما دامت الجزيرة مقسمة، لأن القبارصة الأتراك سيُحرمون من أية موارد يجري استخراجها. وخلال زيارته إلى شمال قبرص، في 14 كانون الأول ديسمبر 2013، دعا وزير الخارجية التركي، داود أوغلو، القبارصة اليونانيين إلى المساهمة "بفعالية في جهود الأمم المتحدة" لحل الأزمة، حتى "يصبح من الممكن بناء سلام دائم في الجزيرة وفي المتوسط كله". وقال أوغلو: إنه "ينبغي ألا يظن أحد أن القبارصة الأتراك سيتنازلون عن حقوقهم". وذلك في إشارة إلى النفط والغاز. وقبل ذلك، رأى رئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان، أن نشاط سلطات قبرص اليونانية للتنقيب عن النفط "لا يهدف سوى لتخريب العملية التفاوضية الدائرة بين القبارصة". ووصفت أنقرة خططاً أعلنت عنها نيقوسيا للتنقيب عن النفط والغاز في حقل ليفيتان، إلى الجنوب الشرقي من نيقوسيا، بأنها سلوك استفزازي وحسب تقدير لمركز المسح الجيولوجي الأميركي، يحتوي حقل ليفيتان على 1.7 مليار برميل من النفط القابل للاستخراج، و122 مليار قدم مكعب من الغاز الطبيعي. وفي خطوة مقابلة لتحرك القبارصة اليونانيين، وقع الأتراك اتفاقية مع السلطات القبرصية التركية للتنقيب عن النفط في السواحل الشمالية. وبدأت تركيا فعلاً عمليات التنقيب. وأعلنت عن بدء عملية حفر في بئر تركيوردور على عمق ثلاثة آلاف متر تحت سطح البحر، على مقربة من قرية تريكومو، القبرصية الشمالية. وما يُمكن قوله هنا هو أن قضية التنقيب عن النفط والغاز في شرق المتوسط إما أن تدفع المجتمع الدولي لمضاعفة جهوده الرامية للبحث عن تسوية للقضية القبرصية، وإما أن تعزز انشطار الجزيرة، وتجعله أمراً لا رجعة عنه. ولا يعترف المجتمع الدولي حتى اليوم سوى بدولة قبرصية يمثلها القبارصة اليونانيون، هي التي تقع في الشطر الجنوبي من الجزيرة، أما قبرص الشمالية، فلا تعترف بها سوى تركيا. وتعتبر أنقرة الداعم الأساسي لشمال قبرص. وهي تموّل اقتصاده بنحو 700 مليون دولار سنوياً. وهناك خط جوي وحيد يربط قبرص التركية بالعالم الخارجي، يمر عبر مطار إسطنبول. كما يوجد خط بحري ناشط بين ميناء كاريينا القبرصي التركي ومدينة أضنة التركية، التي تبعده بنحو 40 كيلومتراً. كذلك، تعتبر تركيا الضامن الأمني للقبارصة الأتراك. وفي محاولة منها لفتح ثغرة في جدار العزلة المفروض على القبارصة الأتراك، أعلنت تركيا، في الثامن من كانون الأول ديسمبر 2006، موافقتها على فتح مرفأ ومطار أمام السفن والطائرات القبرصية اليونانية لمدة عام، ريثما يتم التوصل إلى تسوية شاملة للقضية القبرصية، وربطت ذلك بفتح الاتحاد الأوروبي عدداً مماثلا من الموانئ والمطارات في قبرص التركية. بيد أن قبرص اليونانية سارعت إلى رفض العرض التركي، موضحة أنه لا يمكنها الموافقة على فتح أي مطار في الشطر القبرصي التركي أمام الرحلات الدولية، بخلاف تلك المتجهة إلى تركيا. وحسب المصادر العديدة المتواترة، فإنه عندما أعلنت تركيا للاتحاد الأوروبي موافقتها على فتح مرفأ ومطار لتسيير عمليات النقل القادمة من قبرص اليونانية، فان عرضها جاء منوطاً بتسويات متبادلة. ونقلت وكالة أسوشيتد برس عن مصدر أوروبي تأكيده على أن العرض التركي "مرفق بشروط"، من ضمنها وضع حد لعزلة القبارصة الأتراك. ومن جهتها، قالت وكالة أنباء الأناضول التركية إن العرض التركي يرتبط بإنهاء الاتحاد الأوروبي لعزلة القبارصة الأتراك عبر السماح بالقيام بنشاطات تجارية عبر مطار إيرجان ومرفأ فاماغوستا، في الشطر الشمالي. وفي الإطار ذاته، نقلت وكالة رويترز عن مصدر في وزارة الخارجية التركية قوله: "إنه اتفاق من جانبين. ونطالب بفتح العدد ذاته من الموانئ والمطارات في كلتا الجهتين". وعلى الرغم من ذلك، لم يقدر للعرض التركي أن يرى النور، وظلت الأزمة القبرصية تراوح مكانها. في الخلفيات التاريخية، تجسد التطوّر الأكثر مفصلية في المسألة القبرصية في انقلاب 15 تموز يوليو 1974، الذي نفذته، بالتعاون مع ضباط يونانيين، عناصر قبرصية يونانية تدعو لاندماج قبرص مع اليونان. وقد تمثلت إحدى التداعيات السريعة لهذا الانقلاب في انطلاق موجة عاتية من أعمال العنف ضد المجموعة القبرصية التركية. وحينها قامت تركيا، باعتبارها إحدى الدول الضامنة لأمن قبرص، بالتدخل العسكري للحيلولة دون وقوع إبادة جماعية بحق هذه المجموعة، التي تركزت في الأخير في الجزء الشمالي من الجزيرة. وفي 15 تشرين الثاني نوفمبر1983، أعلنت القيادات القبرصية التركية، وبعد استفتاء عام لسكان الجزء الشمالي، قيام ما عرف ب "الجمهورية التركية لشمال قبرص"، التي تسمى أيضاً قبرص الشمالية. وتشكل الشطر القبرصي التركي على مساحة من اليابسة قدرها ثلاثة آلاف وثلاث مئة وخمسة وخمسين كيلو متراً مربعاً، من أصل تسعة آلاف ومئتين وواحد وخمسين كيلو متراً مربعاً هي إجمالي مساحة جزيرة قبرص، التي تعد ثالث أكبر جزر البحر الأبيض المتوسط، بعد صقلية وسردينيا. وتعتبر كاريينا المدينة الوحيدة التي تقع بكاملها في الشطر التركي من الجزيرة، في حين تعتبر فاماغوستا مدينة مقسمة بين الشطرين التركي واليوناني، حالها في ذلك حال العاصمة نيقوسيا، التي يطلق عليها القبارصة الأتراك اسم فاموروشا. وبعد نحو عشرين عاماً، وتحديداً في شباط فبراير من العام 2003، اعتمد مجلس الأمن الدولي بالإجماع القرار الرقم (1475)، الذي منح تأييده الكامل "للخطة المتوازنة بقبرص"، التي طرحها الأمين العام للأمم المتحدة حينها، كوفي عنان، ودعا كل المعنيين بالتفاوض، في إطار مساعي الأمين العام الحميدة، وباستخدام الخطة، للتوصل إلى تسوية شاملة. وقدم الاتفاق الأساسي المقترح في "التسوية الشاملة للمشكلة القبرصية" استفتاءين متزامنين منفصلين، في الجنوب والشمال، في 24 نيسان أبريل من العام 2004. وقد جرى الاستفتاء بالفعل، إلا أن القبارصة اليونانيين رفضوا خطة الأمين العام للأمم المتحدة، بمعدل ثلاثة أصوات إلى صوت واحد، في حين وافق عليها القبارصة الأتراك بمتوسط اثنين إلى واحد. وعليه، تعثرت الخطة الأممية، ولم تتم إعادة توحيد الجزيرة. وقد اعتبر القبارصة الأتراك أن نظراءهم في الشطر اليوناني لا يبدون معنيين بالتوصل إلى تسوية جدية، وأن زعماءهم يفضّلون استخدام القضية القبرصية بوصفها ورقة ضغط على تركيا في ما يتعلق بمسيرة انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي. وقد انضمت قبرص اليونانية إلى عضوية الاتحاد بعد أيام فقط من رفضها للخطة الدولية الخاصة بإعادة توحيد الجزيرة. وحسب إعلان هلسنكي، الصادر في كانون الأول ديسمبر 1999، فإن قبرص تدخل إلى الاتحاد الأوروبي، حتى وإن لم تصل مشكلتها إلى حل، شريطة أن لا يكون الجانب اليوناني مسؤولاً عن فشل المفاوضات. بيد أن الأوروبيين لم يتقيدوا بهذا الإعلان. وفي الأصل، كان حرياً بالاتحاد الأوروبي الانتظار ريثما يتم حل القضية القبرصية، ومن ثم إدخال قبرص موحدة في عضويته. وأياً يكن الأمر، فإن المطلوب اليوم من المجتمع الدولي الدفع باتجاه حل متوازن للقضية القبرصية، ينهض على أساس تكوين دولة فيدرالية، تقوم على مبدأ التنوع المناطقي والعرقي، وتلحظ خصوصية المنطقة القبرصية التركية لجهة الأمن والدفاع، بل وحتى لجهة طبيعة العلاقة مع العالم الخارجي. وبمعنى آخر، هناك حاجة حقيقية لنموذج فيدرالي، يحتوي ضمناً أو صراحة على نوع من تقاسم السيادة، في حدود ما هو ممكن وضروري. وإن البيئة الأمنية والسياسية الراهنة للشرق الأوسط تمثل مبرراً إضافياً لمضاعفة المساعي الرامية للوصول إلى حل عادل للقضية القبرصية.
مشاركة :