إن كتاب الله أوثق شافعٍ وأغنى غناء واهبًا متفضلاً وخير جليس لا يُمل حديثه وترداده يزداد فيه تجمُلا يقول الكاتب والمؤرخ الاسكتلندي توماس كارليل: القرآن هو الكتاب الذي يُقال عنه «وفي ذلك فليتنافس المتنافسون»، هذا المؤرخ الفاضل لا بد أنه قرأ من الكتب في كل لون وفن، وأخيرًا توصل إلى هذه القاعدة الذهبية عقليًا ومن بعد تفكُّر ولا يسبق ذلك إيمان بالله وبكتابه الكريم، لذلك أتقصد النقل والاقتباس عن هؤلاء الثلة لأنهم غير مسلمين وهم ما أطلقوا أحكامهم إلا بعد سياحة في الأسفار، وهذا له اعتبار شديد عندي بخلاف أن يصدر من باحث مسلم، لأنه يكون متكئ على عقيدة الإيمان بالقرآن ككتاب مُنزل من لدن حكيم خبير، إضافة إلى لغته العربية التي تُسهّل للباحث المسلم تذوق القرآن، أما ممن هم خارج اللسان العربي لشهاداتهم أهمية خاصة بنفسي. «قل أعوذ برب الفلق، من شر ما خلق، ومن شر غاسق إذا وقب، ومن شر النفاثات في العُقد، ومن شر حاسد إذا حسد» سورة يتلوها الناس في صلاتهم وفي أدعيتهم، وفي الأوراد الصباحية والمسائية، وفي كل ذلك خير، لكن لنتناول هذه السورة من ناحية جمالية فنية، وعلى وجه التحديد ناحية الرسم بالألفاظ، وهل حققت الألفاظ الوحدة بين أجزاء الصورة كما يقول أهل الرسم والمشتغلون في هذا المجال يركزون على ضرورة وجود وحدة تربط أجزاء الصورة واللوحة، فهل سورة الفلق أدت هذا التنسيق من خلال تلك الوحدة؟ لنر. الاستعاذة من الفلق وله معان كثيرة منها الفجر، من شر ما خلق تنكير الاستعاذة مما «خلق» و«ما» التي تدل على الشمول، هذا الشمول والغموض يوحي بالظلام المعنوي، ثم الاستعاذة من شر الغاسق «الليل» حين يعم بظلامه كل شيء، ويصبح مرهوب الجانب، وتليها الاستعاذة من النفاثات «السحرة»، وجو السحر يوحي بالظلام والرهبة وعدم الوضوح، وأخيرًا الاستعاذة من الحاسد، وما الحسد إلا ذلك الشعور الدفين اللعين في خفايا النفس وعتمتها. الجو العام للسورة يسوده الظلام والغموض، وهذه الوحدة التي ربطت بانسجام بين جميع أجزاء السورة، فتحققت فيها وحدة الموضوع، وكذلك وحدة الصورة المرسومة في النفس، مضافًا إلى ذلك الجرس الموسيقي بين الآية الأولى والثانية وكذلك الآيتان الأخيرتان، وتأتي الاستعاذة برب كل شيء، من جميع أجزاء الصورة، فالفلق والغسق ظاهرتان طبيعيتان، وهما متقابلتان زمنيًا ومتعاقبتان والنفاثات والحسد من البشر. هي لوحة أجزاؤها موزعة على كامل مساحتها، ومتقابلة في اللوحة بأدق ما يكون التقابل، فهي تشترك بالغموض والظلام، وكل ذلك متحقق في الذهن لمن يقرأ القرآن بعين عقله لا بعين رأسه، وقلبه هواء، ونرى هذا الرسم المتناسق منثورا في كتاب الله في أكثر من موضع. رُسمت لوحة الأرض قرآنيًّا بطريقة عجيبة، فهي مرة هامدة «... وترى الأرض هامدة، فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت، وأنبتت من كل زوج بهيج» الحج 5. الآيات التي تسبق صورة الأرض تتحدث عن الإحياء والبعث، فجاءت صورة الأرض هامدة لا حراك فيها، ثم تنبعث بها الحياة وتهتز وتعطي أحد أضلاع مثلث الحياة وبهيجا أيضًا بهيئته، تحققت وحدة الرسم بين أجزاء اللوحة في أول الآيات وآخرها، وهذه تتشكل صورتها في لوحة أُخرى بعنوان «خاشعة» خشوعها في سياق آخر غير السياق الذي كانت فيه هامدة «ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر، لا تسجدوا للشمس ولا للقمر، واسجدوا لله الذي خلقهنّ، إن كنتم إياه تعبدون، فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون، ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت» 37-39 فُصلت. لوحة كل ما فيها يتبتل إلى الله ويسجد له ويخشع، والأرض ليست بمنأى عن هذا الجو التعبدي للذي خلقهم، فهذا لون من الدقة في تناسق الحركة المتخيلة.
مشاركة :