مثل كرة الثلج المتدحرجة من أعالي الجبال، والآخذه في السقوط بسرعة كبيرة، إلى قدرها المحتوم بالإرتطام بسفح الأرض، ومن ثم التفتت والتشظي، بعد أن يزداد محيط حجمها، ليترك أسوا الأثر على القاصي والداني، هكذا تبدو أحداث السودان الشقيق، وأي أحاديث دبلوماسية أو غنائية، بخلاف ذلك، هي ضرب من ضروب إنكار الحقائق، ومواراة أو مداراة لحقيقة المشهد، وهذه هي الكارثة لا الحادثة. دخل السودان الشقيق في دائرة الإعتصام السلمي ذاك الذي دعت إليه “قوى الحرية والتغيير”، والذي لن ينتهي حسب البيان الرسمي الا بتسليم المجلس العسكري الإنتقالي السلطة لحكومة مدنية، وبإذاعة تسلم السلطة عبر التلفزيون السوداني. هل الصيغة المتقدمة يوتوبية طهرانية أكثر منها سياسية واقعية؟ من أسف شديد، يدرك الجميع أن تعقيدات المشهد السوداني لا يمكنها أن تسمح برفاهية تسليم السلطة على هذا النحو، وعليه يبقى السؤال المخيف والمرعب: “إلى متى يمكن أن تستمر السلمية هي سيدة الموقف، من دون إنفلات الأدمغة الساخنة، وتحول الأمر إلى صراع إرادات مسلحة، تمضي بالسودان والسودانين إلى حرب أهلية” ؟ ينبغي القول وبراحة ضمير كاملة: غن إرث البشير وعبر ثلاثة عقود من الخداع والزيف، ومن ضروب الشمولية والتوتاليتارية، بل والعزف المنحول على أوتار الإيمان والدين والعقيدة، كان لابد أن ينتهي عند أبواب التشارع لا التصالح، وأن يضحى الافتراق سيد الموقف، وأن يظل الوفاق الداخلي بعيدا جدا، والى مدى لا يعلم إلا الله وحده مداه. ليس سرا نذيعه إن قلنا إن النسيج الاجتماعي السوداني ممزق، كيف لا وقد ترك الرجل الراقص بالعصا على أشلاء السودان بلاده ممزقة، بين جنوب استقل بخيرات البلاد، وغرب مليء بالمرارات وقابل للإنشقاق بدوره في القريب، وشرق من قبائل محتقنة، ووسط بلغ معه ضنك العيش مبلغه. تشظي السودان هو قلب الصراع، لم يعد السودان على قلب رجل واحد، وسيأخذ الأمر طويلا الى أن يعود إلى فكرة الدولة القومية الواحدة الملتئم شملها. السؤال الآن: ما هي السيناريوهات المفتوحة في ظل تردي الأوضاع، ومع الإحتقان المتوقع في أعقاب العصيان المدني الذي دخل حيزه الزمني بالفعل؟. يمكن القطع بأن هناك أكثر من إرادة متضاربة في الداخل السوداني، المجلس العسكري من جهة، وقوى التغيير السلمي من جهة ثانية، وتبقى إشكالية قوات الدعم السريع أو “الجنجاويد” والجنرال حميدتي جبهة ثالثة، وتكاد تكون الأخيرة هذه عقدة كبيرة في المشهد السوداني، سيما وأن الاتهامات الموجهة إليها، والموثقة من قبل البعض، تجعل بقاءها في المشهد السوداني الرسمي عقبة تمنع أي تصالحات، وتقف سدا في مواجهة أي حوار بناء وخلاق يقود إلى مواءمات سياسية تنهي الأزمة. تاريخ حميدتي والجنجاويد غير ناصع، والكل يعرف ما اقترفته قواته في دارفور، عطفا على أن حادثة فض الاعتصام في 29 رمضان الماضي والقاء الجثث في نهر النيل، كلها ترشحه لمحاكمات جنائية دولية، ليصطف مع البشير. حين تسيل الدماء تتعذر المصالحات، فهل ستقبل الأطراف السودانية شرط القوى السلمية الخاص بتشكيل هيئة مستقلة مدعومة دوليا للتحقيق في أعمال العنف الأخيرة، ومحاسبة المسؤولين عنها؟. ما جرى من إعتداء على المعتصمين مشين للغاية، سيما وأنه حدث تجاه سلميين قولا وفعلا، على الخلاف بالمطلق من إعتصامات شهيرة أخرى جرت بها المقادير في اغسطس 2013 في ميادين رابعة والنهضة في العاصمة المصرية، حين وجه الإرهابيون من الجماعة الإخوانية المحظورة نيران أسلحتهم الآلية إلى صدور الشرطة المصرية. معتصمو الخرطوم سوف تتزايد أعدادهم بسرعة كبرى في الأيام القادمة، والمجلس العسكري السوداني مطالب بترجيح العقل، وبتعلية شأن الحكمة والتدبير، من أجل صالح سودان المستقبل، لكن علامة الإستفهام المقلقة ما هي مقدرة هؤلاء على التعاطي مع قوات الدعم السريع؟ وهل يمكن إحتواؤها ضمن صفوف الجيش الوطني بداية، وإنهاء حالتها الميليشياوية المرفوضة، وتصرفاتها التي بلغت حد طرد الآمنين من منازلهم والإستيلاء عليها؟. مطالب الإعتصام السلمي اليوم بديهية، عدالة، مساواة، إفراج عن المعتقلين، إلغاء قانون الطوارئ، حرية، تعددية، إعلام حر، وهي كلها مبادئ ومنطلقات تتسق وشرعة حقوق الإنسان، وتجد ردات فعل إيجابية من المجتمع الدولي، والسير عكس التيار سيفقد القابضين على السلطة اليوم هناك أية شرعية لهم. بعد قرار الإتحاد الافريقي بتعليق عضوية السودان، تتضاءل فرص نجاحات الوساطات الأممية، في تجميع الجسد السوداني، وللسودانيين أمثلة فيما جرى في سوريا، وما هو حاصل في ليبيا. لن ينقذ السودان سوى تضحيات السودانيين، ولا نقصد بها تضحيات وقرابين الدم والعنف، بل تضحيات الخدمة الحقيقية التي تقوم على إنكار الذات من أجل صالح الشعب والوطن.. السودان في خطر داهم.. فهل يستفيق الأشقاء هناك أم أنها القارعة؟.
مشاركة :