في ندوة حضرها عدد من طلبة الصحافة الفرنسيين عام 2013 روى الصحافي الأميركي سيمور هيرش أنه انتظر خمسة شهور قبل نشر تحقيقه عن سجن أبوغريب. ورغم أنه حصل في ديسمبر 2003 على معلومات دقيقة من ضابط عراقي سام عن تعذيب السجناء وإذلالهم فإنه فضل انتظار ما يثبت ذلك حتى كان له ما أراد فنشر تحقيقه يوم 30 أبريل 2004 في صحيفة “ذي نيووركر”. وحصل هيرش على نسخة من التقرير الذي أمر به في ديسمبر 2003 قائد القوات الأميركية في العراق آنذاك، الجنرال ريكاردو سانشيز. كان بإمكان سيمور هيرش أن ينشر الخبر يوم حصوله على المعلومات على نحو “قال ضابط عراقي سام إن سجناء أبوغريب يتعرضون للتعذيب…” كما تفعل الصحافة التونسية عادة. لم يفعل هيرش كما فعل بعض صحافيينا في رمضان عندما نشروا دون أي تحقق أن رئيس فريق النادي البنزرتي لكرة القدم قال لهم إن مسؤولين من الملعب القابسي عرضوا عليه 250 ألف دينار رشوة ليحض لاعبيه على التخاذل في المباراة لتمكين الفريق الراشي من الفوز. ولم يفعل كما فعل البعض الآخر، دون ذكر أي مصدر، عندما نشروا أن نائبة في البرلمان ضُبطت وهي تحتسي الخمر في رمضان مع خليلها في سيارة أو كما نشر غيرهم أن سكان مدينة قابس في جنوب تونس كتبوا على جدران مدينتهم أن رئيس فريق كرة القدم هناك اختلس أموالا مطالبين إياه بالرحيل. لقد أخل الصحافيون في الأمثلة الثلاثة، التي نكاد نرى مثلها يوميا، بأخلاقيات الصحافة. وإن تعددت المواثيق واختلفت في أمور تفصيلية فهي تجتمع كلها حول مبادئ أساسية تلخص في أربعة محاور وهي أن يخبر الصحافي بالحرص على الحقيقة أولا، وينقلها في كنف الاستقلال التام ثانيا، وبأمانة ثالثا، وبالحرص على حقوق الناس آخرا. فالحقيقة قيمة مفقودة في الأمثلة الثلاثة المذكورة إذ تقتضي أبسط مبادئ الأخلاقيات والمهنة أن نعلم ردود مسؤولي الفريق المتهمين بالرشوة والنائبة المتهمة بالسكر والزنا ورئيس الفريق المتهم بالسرقة. وما لم نعلم ردود هؤلاء فإن ما أوردته الصحافة في شأنهم يبقى أقوالا أبعد ما تكون عن الحقيقة. وتقتضي الحقيقة الصحافية، بصرف النظر عن مفهوم الحقيقة فلسفيا، إثباتا بالأفعال. ولا تتعدى الأقوال التي ينقلها الصحافيون أحد ثلاثة أمور. فالصحافي ينقل أقوالا يعبّر فيها الناس عن رأي، والرأي لا يُكذّب ولا يُصدّق فهو لا يقتضي إثباتا بالأفعال بل حججا عقلية، وينقلون أقوال الخبراء للتفسير، وهو شأنهم؛ يكذبّون بعضهم أو يصدّقون. وهو ينقل الأقوال التي نفترض أنها تنقل وقائع كما هو شأن الأمثلة الثلاثة المذكورة هنا. فإذا كانت الأقوال تنقل وقائع فإن تلك الوقائع لا تصبح حقيقة صحافية ما لم ينقل الصحافي أقوال المعنيين كلهم بتلك الوقائع. فماذا قال المتهمون بالرشوة وماذا قال الرئيس المتهم بالسرقة وهل رد مسؤولو الفريق عن ذلك؟ وهل سئل أنصار الفريق عمن كتب على الجدران؟ وهل هناك من شاهد الراشي يقدم الرشوة أم أن كلام المرشيّ منزل؟ وهل سأل أحد امرأة طعنت في شرفها وكرامتها ودينها؟ هل من الأمانة نشر أخبار قبل التحقق منها وعرضها على الناس على أنها حقيقة؟ وهل من الصدق الإيحاء للناس بأن ما ينشر ناقصا وغير دقيق حقائق؟ وتخل تلك الأمثلة بالمحور الثاني من مبادئ الأخلاقيات الصحافية وهو الاستقلال. ويُفهم الاستقلال في معنى استقلال الصحافي عن القوى السياسية وعن مراكز القرار وعن السلطة الإدارية في المؤسسات الإعلامية، في حين أن الاستقلال يعني كذلك أن يكون الصحافي في حل من ضغط السوق. فالنشر دون تدقيق لا يعني بالضرورة قلة كفاءة الصحافيين بل أحيانا الرغبة في الإسراع بالنشر لتحقيق السبق الصحافي حين تلتقي رغبة الصحافي في البروز بحرص المؤسسة على استباق المنافسين، ضمانا لجلب القراء الذي يتبعه الربح عبر الإعلانات. وفي التعجيل بالنشر اختصار للوقت فتتسرب الأخطاء ويغيب التثبت فيجد الصحافي نفسه حبيسا لرغبة الإدارة ولمقتضيات السوق. وقد لا يكون التعجيل بالنشر على حساب الدقة من اختيار الصحافي بل قرارا من إدارة التحرير التي قد تخضع لإدارة المؤسسة التي لا تراعي مقتضيات الأخلاقيات. وهنا أيضا جاءت المواثيق الأخلاقية كلها صارمة في تذكير الصحافيين بأن استقلالهم يقتضي بألاّ يخضعوا لأي ضغوط لنشر ما يتعارض مع الأخلاقيات وإن كانت صادرة عن إدارة التحرير نفسها. ولذلك السبب تأتي المواثيق الأخلاقية عقدا بين الصحافيين والناشرين، أي أصحاب المؤسسات الإعلامية، حتى تكون إدارة التحرير محمية من تجاوز قد يصدر عن الناشرين وحتى يفهم الناشرون أن للنشر قواعد تقتضي تسييرا ماليا وإداريا مختلفا عن تسيير المؤسسات غير الإعلامية بالنظر إلى طبيعة المنتَج الإعلامي صناعة وترويجا واستهلاكا وهدفا. والحرص على الحقيقة وعلى تمسك الصحافي باستقلاله من مقومات الأمانة الصحافية. فالأمانة شرف وإخلاص وصدق ووفاء واستقامة. فهل من الأمانة نشر أخبار قبل التحقق منها وعرضها على الناس على أنها حقيقة؟ وهل من الصدق الإيحاء للناس بأن ما ينشر ناقصا وغير دقيق حقائق؟ ليس من الشرف أبدا ولا من الإخلاص للقراء القول بأن فلانا سرق أو رشا أو زنى بنقل ذلك على لسان أحدهم. لا ينتبه الناس عادة إلى أن الصحافي ينقل عن مصدر آخر بل يعتقدون أن ما ينشر هو كلام الصحافي كما يفترضون أنه، إن صدقوه، دقق وحقق، بل أكثر من ذلك أصبح الناس، في عصر ما بعد الحقيقة، يميلون إلى تصديق ما يناسب هواهم حتى إن كان كذبا دون أن يتساءلوا إن كان الصحافي دقق أم لم يدقق. أما المحور الرابع في الأخلاقيات الصحافية فهو الحرص على حقوق الناس المذكورين في الأخبار لصون كرامتهم وخصوصياتهم وحقهم في البراءة ما لم يثبت القضاء إدانتهم. وليس من اليسير بعد النشر إقناع الناس بأن أحدهم لم يسرق ولم يرْشِ ولم يزنَ. وليس مسموحا للصحافي أخلاقيا أن ينصب نفسه قاضيا ولا أن يكون صوتا لمصدر ما نصب نفسه قاضيا فينقل كلامه دون أدنى تدقيق وتحقيق وهو يدوس كرامة الناس وحقوقهم بذلك. ولا شيء يفرض على الصحافي انتظار صدور أحكام قضائية للحديث عن مثل تلك الأمثلة الثلاثة بل المطلوب منه إعطاء الكلمة لمن وردت أسماؤهم في الأخبار حتى يردوا على ما اتهموا به للدفاع عن أنفسهم بطريقة تحفظ لهم الحق في ألاّ يقطع الناس بإجرامهم. أخلاقيات الصحافة كل لا يتجزأ متى دسنا ركنا منها تهاوت الثلاثة الأخرى. وهي قيم لا تدعو الصحافيين إلى نشر ما يسيء للآخرين ولا إلى ما يعلي من شأنهم بل إلى نشر ما يخدم مصلحة المجتمع. فأين خدمة المصلحة المجتمعية في نشر خصوصيات الناس حتى إن كانوا من الوجوه العامة؟ عندما كان سيمور هيرش يحدث طلبة الصحافة قال لهم “إن مهنتنا هي أن نبحث عن الحقيقة بأنفسنا”. إن احترام الأخلاقيات مهمة مكلفة للمؤسسة الإعلامية ومرهقة للصحافي غير أنها مصلحة للمجتمع ولذلك لا بد دون الشهد من إبر النحل.
مشاركة :