هل يحتاج كاتب الرواية إلى رَديف؟

  • 6/20/2019
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

يختلف كتاب الرواية في صياغة نصوصهم. منهم من يكتب ما يرضي قناعته الفكرية ويلبّي حسه الإبداعي ولا يقبل أن يُخْرَم منه حرفٌ واحد، شأن جورج سيمنون الذي أجبر ناشره على إتلاف طبعة كاملة لحذف فاصلة دون استشارته؛ ومنهم من يستعين بغيره في توجيه مسار أحداث روايته ومصائر أبطالها، مثل غارسيا ماركيز وكان من عادته أن يشرع في سرد حكاية لأصدقائه دون أن يُتمّها أو يذكر لهم أنها مشروع قصة أو رواية، ليعرف منهم أي السبل أكثر إقناعا وطرافة، أو كازو إيشيغورو الذي أعاد كتابة قرابة مئة صفحة من روايته “العملاق المدفون” عملا بنصيحة زوجته. مثلما يختلف القراء في تلقي الروايات، فيميلون إلى صنف دون آخر، أو كاتب بعينه تعودوا عليه تعوّدَهم على نجم سينما، يلتهمون بنهم كل ما ينتج، بل قد يختلفون حول الرواية الواحدة، لأن لكل طرف أفقَ انتظار يخصه. ويزداد الاختلاف حدّة إذا كان القراء من الكتاب، فبلزاك تهجّم على “أحدب نوتردام” لهيغو معتبرا إياها “خرافة لا تصدّق وكِتابا مضجرا مليئا بتصنع معرفة الهندسة المعمارية”، وفرجينيا وولف وصفت “عوليس” لجيمس جويس بأنه “مشوَّش وموحِل ودعيّ ومبتذل”، وفيتولد غمبروفيتش عاب على رواية “في البحث عن الزمن الضائع” لبروست “نوعا من الجمالية المفتعلة والعناية بأشد مظاهر الحياة عادية”. تلك الأعمال، على علوّ قيمتها، وجلال مبدعيها، لم تنل رضا القراء أجمعين في عصرها، لاختلاف التكوين والأمزجة والأذواق، فكان أن لمس فيها كل واحد نقصا أمل من الكاتب تداركه. لأن القارئ الفطن، الذي اعتاد معاشرة الروايات، تتراءى له ما يحسبها ثغرات يودّ دائما لو بادر الكاتب بسدّها، ويحلم أن يعثر على عمل يتوافر فيه كل ما ينشد. فهل توجد وصفة سحرية لتنقية الروايات من هناتها المزعومة، قبل نشرها، وجعلها مقبولة لدى الناس كافة، وفي الأقل مكتملة لغة وأسلوبا وبناء؟ إن الذائقة الأدبية عرضة للتغير بتغير الأزمان، فما يُستهجن في عصر قد يُستحسن في عصر لاحق، أو العكس نعم، يجيب الصديق الناقد عبدالدائم السلامي، الذي يساوره قلق أدبيّ يشعر معه بأنّ هذه الرواية أو تلك كان يمكن أن تصاغ صياغة أفضل، ويقترح إيجاد ما أسماه “المُخرج الروائي”، تكون مهمته صقل الرواية قبل نشرها، عبر معرفة نقاط قوتها لإظهارها، والوقوف على نقاط ضعفها لتعديلها، حتى تكون جميلة البناء متوهّجة الدّلالة، تحضر عناصرها حضور الضرورة، فلا تشكو بَعدها نقصا ولا تقبل زيادة. ويشترط في المخرج الروائيّ أن يكون “قارئا ذا خبرة في مخالطة النّصوص الروائية، له اطلاع على منجَز السّرد العربي والعالمي واتجاهات حركته، إضافة إلى وعيه بآفاق الدراسات النقدية وحدودها الإجرائية، مع تمكّنه من اللغة، وتنبّهه للأذواق القرائية الرائجة، وإحاطته بثقافة النص الأدبي وارتباطاته بفنون عصره وقضاياه”، كما يشترط أن “ينجز مهمّته متطوِّعا ومدفوعا بعشقه الأدبَ”. وصديقنا السلامي واع طبعا بالفرق بين ما هو منشود، أي المخرج الروائي، وما هو موجود، أي المحرر والمدقق اللغوي. والحق أن هذه الفكرة تثير أسئلة عديدة نحاول إجمالها في ما يلي: إن كمال النص أو نقصانه، بغض الطرف عن تباين تلقيه كما أسلفنا، هو ما يتميز به كاتب عن كاتب، ولو أخضعنا النصوص جميعا إلى مُخرج أدبي يتولى صقلها وتهذيبها، رغم تأكيد الأستاذ السلامي على أن “الإخراجَ مَهَمّةٌ لا تذيب كيان الرواية كما كتبها صاحبها”، فسوف نخلق كتّابا مزيفين، لا فضل لهم في ما ينتجون، ونصوصا متماثلة في بنيتها ولغتها وأساليبها، أشبه بمصنوعات تفرزها آلة؛ بل سوف نجعل موقع “المخرج الأدبي” قبلة يؤمها الكتّاب، ويدفعون لبلوغها كل مرتخَصٍ وغالٍ كي يَحظوا بخدماته، وقد يغدو الخضوع لمخرج أدبي طقس عبور لجواز النشر أو عدمه. ثم من يضمن للكاتب أن هذا المخرج أو ذاك تتوافر فيه الشروط الكفيلة بإخراج نصه في أبهى حلة. ألا نخشى أن نفتح بذلك سوقا جديدة تفرض أسماء بعينها، ويتسابق إلى دكاكينها الكتّاب طمعا في بروز عجزوا عن الظفر به بمجهوداتهم الخاصة، ويحلمون ببلوغه بما يدفعون من مقابل؟ ذلك أن أنصاف الكتاب وأشباههم، ولاسيما أولئك الذين اعتادوا النشر على الحساب الخاص، سيتسابقون لنيل رضاهم، بكل ما في التسابق من تنافس غير شريف. ثم إن الذائقة الأدبية عرضة للتغير بتغير الأزمان، فما يُستهجن في عصر قد يُستحسن في عصر لاحق، أو العكس. كذا حكايات ألف ليلة وليلة، فهي في نظر ابن النديم “كتاب غثّ باردُ الحديث تَلوكُه ألسنة العامة”، وفي رأي التوحيدي “كتاب وُضع فيه الباطل وخُلط بالمُحال، ووُصل بما يُعجب ويُضحِك، ولا يَؤول إلى تحصيل”، قبل أن تصبح من الأعمال الإنسانية الخالدة، التي تأثر بها الغرب، من ثربانتس، أبي الرواية، إلى باولو كويلو.كذلك التأويل، فهو أيضا قابل للتغير بتغير المناهج، فما تعدّه مدرسة نقدية إخلالا، قد تحتفي به مدرسة أخرى، تختلف معها في جماليات التلقي، ولنا في المراجعات الجذرية التي يقوم بها النقاد في أوروبا وأميركا حول النظرية الأدبية خير دليل. عنصر آخر لا يقل عمّا أسلفنا أهمية، وهو ما يجلل مسار الكبار من عثرات، فما كل أعمال الفحول جليلة، لاستيلاء النقص على البشر، والنبوغ قد يصاب بالكسوف لسبب أو لآخر، كما بين الباحث الفرنسي بيير بايار في كتاب “كيف نحسّن الأعمال الفاشلة”، حيث تناول عدة أعمال لكتاب كبار، أملا في الوصول بها إلى الكمال المنشود، واقترح تغيير الشكل، وتنويع الحبكة، وحتى نقل الشخصيات من رواية إلى أخرى، ولكنه انتهى إلى أعمال هجينة لا علاقة لها بأصحابها. ثم إن المدونة الروائية في العالم تحوي نصوصا كثيرة منفلتة عن الذائقة السائدة، خارجة عن المألوف من جهة كسر خطية الزمن، وتغييب الحدث، وطمس ملامح الشخصيات، وحتى تحطيم البنية الصرفية syntaxe لغايات مقصودة، كما فعل أنصار الرواية الجديدة في فرنسا، وكما فعل من قبلهم السورياليون. فكيف نرغم هؤلاء وأولئك على اتباع منهج يرفضون الانصياع إليه عن قناعة مسبقة، والقبول بمعايير يتمردون عليها ويسعون إلى تقويضها؟ والمعلوم أن من الكتّاب من بنى مجده على أسلوب مغاير، يخالف ما استقرّ في أذهان القراء، ومضى يكتب نصوصه كما يحسّ، لا كما تمليه عليه ذائقة هذا الناقد أو ذاك، على غرار لوي فردينان سيلين، وريمون كينو، وسواهما. والسؤال الأكثر واقعية في نظرنا، من أين لنا بهذا الطائر النادر الذي تتوافر فيه كل الخصال المذكورة، ويقبل أن يعمل متطوعا، حبا في الأدب وفي الرواية؟ لا نعتقد أن الكاتب الحق يحتاج إلى مُخرج يرمّ ما هوى من أثره، لأنه ناقد نصه في المقام الأول، يعرف ما أتى وقدّم، ولا يرضى بأن يُمسّ عملُه أهون مسّ. عندما واجه بعض النقاد والقراء ألان روب غريي بمثل تلك الملاحظات التي تتصيّد ما تعتبره هنات، من نوع لو جعلت كذا لكان أفضل، ولو حذفت كذا لكان أحسن، أجاب “هذا أدبي. فلتكتبوا أدبكم”.

مشاركة :