تلاميذ نيتشه..أمراء فلسفة الهدم

  • 6/24/2019
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

** الشارقة: علاء الدين محمود «لا توجد حقيقة بل تأويل»، بمثل هذه المقولات المشككة، صنع الألماني فريدريك نيتشه «1844 - 1900»، موعداً وتاريخاً جديداً للفلسفة، فهو المفكر الذي نجح في أن يصيب الجميع بعدواه، وأن يجعل الشك يتسرب إلى أجيال من الفلاسفة الذين أتوا بعده، فقد مثل منعطفاً حقيقياً في أساليب وطرق التفكير، قلب بها أنماط التفكير القديمة؛ عبر وسائل احتجاجية على السائد من قيم، وما رسخ في الأذهان والعقول، وشكك في مدى جدوى مقولات مثل الأخلاق والضمير والقيم، لقد قاد ذلك الأمر لفهم الواقع بصورة أمثل وأفضل وفتح الباب مشرعاً أمام تطور كبير في الفلسفة، وربما هذا ما توقعه نيتشه عن نفسه، فقد كان يرى أن فكره هو ديناميت سيقسم تاريخ العالم إلى قسمين. ولقد كانت تلك نبوءة غير مقصودة، فالرجل لا يركن إلى فعل التنبؤ كثيراً، فهو لم يحتكم إلى نسق فلسفي؛ بل كان متحرراً أودع مقولاته الفلسفية في قلب لغة شاعرية، قال الشيء ونقيضه، فكان أن وجد فيه الجميع ضالتهم: ثوريون، رجعيون، مؤمنون، ملاحدة، فرديون، اشتراكيون، حالمون وواقعيون. حتى توهم الجميع أنهم حققوا أطروحاته ومفاهيمه على أرض الواقع وتمثلوها، لقد كان منذ البدء كارهاً لما سماه بالأصنام، أي الأفكار التي تعامل معها الناس كحقائق، بالتالي عمل على أن يسود المنهج الذي يجعل الناس في مواجهة الأسئلة، المنهج النقدي في طبيعته، وهو يماثل مطرقة لا تبقي على ساكن، تتحدى العقل في تصوراته القديمة، وتمثل اتجاهاً معادياً لفلسفات سبقته لم تسلم منها إلا فلسفة أستاذه شوبنهاور، بالتالي فإن نيشته نفسه كان نتاج التأثر، كان تلميذاً، لكنه عمل بدأب؛ ليتخلص من تلك الأستاذية؛ عبر نقده الذي يقلب عادات التفكير، فقد مثل تحدياً عبر تشكيكاته التي أودعها في مقولات تعبر عن سيولة الأشياء والحقائق.هذه التشكيكية ستحضر بقوة في الفلسفة الحديثة؛ بل ستنهض عليها بشكل كامل، لتصبح الطريق الذي سوف لن يحيد عنه فلاسفة جدد أتوا بعد نيتشه وحملوا راية الفلسفة كما أراد؛ لكن نيتشه لم يكن وحده، وإن كان الأبرز إلى جانب كارل ماركس، وفرويد، فهؤلاء هم الذين أسسوا للتشكيك والارتياب، وأسهموا بطرق مختلفة، تجمع متشابهات فيما بينها، في كشف الوعي الزائف، كانوا بالفعل ملوك الهدم الذين عملوا على تحرير الوعي، ولنا أن نلاحظ مقولة ماركس الأساسية المشابهة لما ذهب إليه نيتشه، عندما قال: «كل ما هو صلب يذوب في الهواء»، وكذلك فرويد الذي كرّس علم النفس؛ لمحاربة الأوهام، ولعل ما يجمع هذا الثلاثي هو تحرير الإنسان من سلطة الأوهام، وهذا هو الميدان الذي برز فيه نيتشه بشكل أكبر، فكانت فلسفته حاضرة في أفكار وأساليب أهم فلاسفة القرن العشرين وشكلت الأساس لفلسفة الكثيرين كمارتن هايدغر وميشيل فوكو وجاك دريدا وجيل دولوز، وآلان باديو؛ بل حتى عند كتّاب من أمثال: ألبير كامو وجان بول سارتر وتوماس مان وهيرمان هيسه، أو كما يقول «ميل ثومبثون» و«ناجيل» في حديثهما عن نيتشه في كتابهما «جنون الفلاسفة»: «لقد كان تأثير نيتشه كبيراً، وشمل فوضويين وفاشيين وفرويدوين ووجوديين، إضافة إلى الحداثيين والوثنيين الجدد، ولاعبي الكرة ومصففي الشعر، ومؤيدي النساء والكارهين لهن»، ولكن التأثير الفلسفي المباشر هو الذي وقع على تلاميذه من الفلاسفةالمعاصرين الذين شربوا من معينه، ولما كان نيتشه مسيطراً على المشهد الفلسفي، فإنه قد مثل خطراً حقيقياً على جميع هؤلاء الفلاسفة؛ ولأن نيتشه ظل حاضراً بقوة في أفكارهم ومناهجهم؛ فقد حاولوا أن يمارسوا نوعاً من قتل الأب، سعوا إلى تغييبه؛ انتصاراً لفلسفتهم، وحتى يعلنوا عن أنفسهم وعن أفكارهم المتأثرة به؛ حيث يرى كثيرون أن لنيتشه التأثير الحاسم على أفكار القرن العشرين، على الصعيد الفلسفي، واللاهوتي، والفني وعلم اللغويات.ونجد أن منهج نيتشه المتمثل في «الجينيالوجيا»، والتي تكشف أصول الأشياء وتعيد ترتيبها وتسأل عن مدى قيمتها وجدواها، هو في الأصل أسلوبية تتبع أصل الشيء وتكونه عبر مراقبة دقيقة ولصيقة لا ينفلت عنها، وهو المنهج الذي أطلق عليه نيتشه اسم «المطرقة»، والتي هوى بها في البدء على «الميتافيزيقا»، أي علم الما ورائيات، وبالتحديد على الأفلاطونية والتي كون موقفاً مرتاباً في بداهتها ومقولاتها؛ عبر تفكيك بنيتها ورفض ثنائيتها ونمطيتها، ليعلن بقوة أن هذه الأفلاطونية هي مجرد تزييف وتشويه للحياة، ولكن مطرقة نيتشه تصبح ملهمة فتتناسل عند هؤلاء التلاميذ من البنيويين وما بعد البنيويين، والذين يبحث كل واحد منهم عن مطرقة خاصة به، فكان «التفكيك»، عند جاك دريدا، والذي استعار تقاليد نيتشه في تفكيك الخطاب، والبحث عن المقصي والمبعد عن النص، وكذلك جيل دولوز، وأركيولوجية فوكو، التي هوت على الخطاب مستعيرة كذلك وسائل وأدوات منهج نيتشه، إضافة إلى بقية الفلاسفة والذين مثلوا في مجمعهم حركة ما بعد الحداثة، التي أخذت من أفكار نيتشه نقطة أساسية نقدية، وبالتالي أعملوا النقد في قيم الحداثة ومقولاتهم، وبثوا فيها ذات الارتياب والشك الذي تعلموه من نيتشه، فهو الذي صنعهم وتوقع ظهورهم عندما ذكر في كتابه الذي يشكل مرجعاً لفهم فلسفته «هكذا تحدث زرادشت»، بأن هذه القيم التي ترسخت في الأذهان وشكلت حقيقة، تحتاج إلى ألف سنة كي يتم التأثير فيها فتتبدد، فكان أن جاء هذا الوعد على ورثة منهج الشك من فلاسفة نقد الحداثة، فقد استعارت الفلسفة الحديثة التقاليد النيتشوية في الفلسفة وعبـرت بها نحو أودية جديدة بسلطان الجهاز المفاهيمي النيتشوي؛ أي بأدواته النقدية، فقد صنع نيتشة عبر كلماته جيلاً من الفلاسفة الذين تسيدوا المشهد الفلسفي المعاصر.ولقد تبارى هؤلاء التلاميذ في مدحه رغم كل شيء، وبصورة خاصة عند الفلاسفة المعاصرين في فرنسا؛ حيث احتفي به هنالك بشكل أكبر من ألمانيا، وصارت صوره تضع في غرف النوم كفيلسوف يرمز للحرية، ثم كان الاحتفاء الأكبر مع بروز الوجودية خاصة مع ألبير كامو، ويرى أبرز تلاميذه جيل دولوز أن نيتشه دمج في الفلسفة بين نمطين تعبيريين جديدين هما: الحكمة والقصيدة. إنهما نمطان يبرهنان على تصور فلسفي جديد ويفصحان عن وجه آخر لكل من المفكر والفكر على حد سواء، فيما أطلق عليه آلان باديو اسم «أمير الفلسفة المضادة»، فهو يرى فيه فيلسوفاً غامضاً لا يمكن أن تفهم أفكاره بسهولة، ولكن هذا الغموض هو الذي مثل الدافع عند باديو لاقتفاء أثر نيتشه كما فعل دولوز وكذلك دريدا في تفكيكه، وفوكو في حفرياته المعرفية، وقبلهم هايدغر في نقده للميتافيزيقيا، لقد كان حضور نيتشه يهيمن بدرجة كبيرة عند هؤلاء التلاميذ إلى درجة لم يحتملوها، فحاولا نفيها حتى يتأكد وجودهم الفكري والفلسفي بعيداً عن سلطة المعلم.وبمثل ما كان لنيتشه تأثيره الواعي والحقيقي عند فلاسفة ما بعد الحداثة ممن أشرنا إليهم؛ فكذلك كان له تلاميذ غير نجباء زيفوا فكره وأساؤوا إليه خاصة في الحركة النازية، والتي وجدت في أفكار الرجل عن الإنسان السوبومان ضالتهم في تشكيل فلسفة تعتمد على القوة والبأس، وتبعاً لذلك نشأ الحزب النازي في ألمانيا عبر تزوير نصوص نيتشه، فقد أثّرت فلسفته بعمق في اتجاهات السياسة الألمانية، حتى أصبحت أساس القوة الحربية الألمانية المكثفة التي حشدتها في فترة الثلاثينات من القرن الماضي وكانت سبباً من أسباب الحرب العالمية الثانية، وقد كان موسوليني أحد أكبر وأهم المتابعين المتحمسين لنيتشه، فكانت الفاشية هي النتيجة الغريبة للفهم المشوه لتلك النصوص.

مشاركة :