بينما كنت في مناقشة مع أحد الأصدقاء تعجب من إمكانية تكرار التاريخ لنفسه مقارنًا بين بعض الأحداث المعاصرة وبعض الحوادث التاريخية، وقد كان جدله يدور حول سؤال طرحه كالقنبلة وهو: هل يعيد التاريخ نفسه؟ ولكن قبل أن نناقش سؤاله اسمحوا أن نتناول الأسس الثلاثة، التي تقوم عليها الظواهر التاريخية. فأي حادثة تاريخية تقوم على ثلاثة دعائم هي: الزمان، والإنسان، والمكان، ولا يمكن تصور ظاهرة تاريخية خارج حدود هذه الدعائم الثلاث، فالزمان هو الذي يجعل للحادثة التاريخية صفتها التاريخية، ومن المستحيل تماماً تصور أية حادثة تاريخية خارج نطاق الزمن، والزمن الذي أعنيه هنا هو الزمن الإنساني أي عمر الجنس البشري فوق كوكب الأرض، ذلك لأن الفعل التاريخي في حقيقته فعل إنساني وقع داخل حدود الزمن الإنساني، وارتباط التاريخ بالزمن يتضح من خلال الحقيقة القائلة بأن الماضي الحضاري لبني الإنسان على سطح الأرض هو موضوع علم التاريخ. أما المكان أو البيئة فهي الركن الثاني من أركان الظاهرة أو الحدث التاريخي لأن البيئة هي مسرح العملية التاريخية، لأننا لا نستطيع تصور وجود الفعل التاريخي في فراغ بعيدًا عن المكان أو البيئة، فالتفاعل بين الإنسان والبيئة في إطار الظرف الزماني هو الذي ينتج لنا الظاهرة التاريخية في أي عصر من العصور، ذلك لأن الإنسان هو منفذ العملية التاريخية ما دام ميدان التاريخ ومجال بحثه هو ماضي النشاط البشري، فالارتباط بين الإنسان بوصفه فاعلاً تاريخيًا؛ والتاريخ الذي يهتم بدراسة الفعل الإنساني ومحاولة تفسيره يبدو في غاية الوضوح، وليس بوسعنا أن نتصور وجود ظاهرة تاريخية لا ترتبط بالإنسان؛ إذ إن ذلك لن يكون تاريخاً بالمعنى المقصود، وإنما سيكون نوعًا من التاريخ الطبيعي، الذي يختلف تمام الاختلاف عن التاريخ كعلم الإنسان، فالتاريخ يميل إلى حفظ كل ما له قيمة بالنسبة لبني الإنسان، ويترك ما عدا ذلك للفناء والهلاك. وأعتقد أننا بعد ذلك نستطيع أن نجزم أنه من الممكن أن يعيد التاريخ نفسه، لكن مع الاختلاف في الأشخاص صنّاع التاريخ، والأمكنة ، ولكن بشرط أن تتوافر نفس الظروف والأسباب، وإلا ما كانت هناك ضرورة لدراسة التاريخ، لأننا بدراسة التاريخ نتعلم من أخطاء الماضي لنتفهم حاضرنا، ونتلمس مستقبلنا بعيدًا عن تلك الأخطاء حتى لا نقع فيها مرة أخرى. والقرآن الكريم حين يأمر المسلمين بالنظر والتأمل والتدبر في حوادث التاريخ يحاول أن يبين لهم من خلال مفاهيم العظة والعبرة التجارب التي مرت بها الأمم السابقة والجماعات البشرية الماضية؛ كي يتعلم المسلمين دروسها، ذلك أن القرآن الكريم دائمًا ما يؤكد على أن التغيرات التاريخية لم تحدث فجأة، وإنما كانت نتيجة تراكم بعض الأسباب، التي يتحتم عليها تغير كبير بعد فترة من الزمن قد تطول وقد تقصر، ولهذا إذا ما تشابهت الأسباب أو المقدمات فليس من المستحيل أن تتشابه الحوادث التاريخية مع بعض الاختلافات في الأمكنة والأشخاص، وذلك إن لم نتعلم من تجارب الماضي، ذلك أن التاريخ لا يُدرس اعتباطاً من دون فائدة؛ بل إنه يدرس للاستفادة من تجارب السابقين، بحيث يمكننا القول بأن التاريخ ضرورة اجتماعية لكل جماعة بشرية لكي تتعرف إلى ماضيها الذي يساعدها على تفهم حاضرها، وتلمس طريقها لمستقبلها، وهو عزيز عليها في عصور التقدّم والرقي والازدهار، وعهود المحن والآلام.
مشاركة :