أقرأ هنا وهناك، وأسمع من هذا وذاك من يحاول (ادعاء) تصحيح مسار هيئة الترفيه باقتراحات تكاد تكون مشبعة بذهنية (المراكز الصيفية القديمة) وثوابتها التي توهمها البعض ديناً، طبعاً كل هذا يتم تحت غطاء حداثي يسمى (الدفاع عن الهوية)، والهوية كما يريدون اختزالها هي لون واحد نحاول تفكيكه وتعريته هنا. عندما صدرت رواية (بنات الرياض) عام 2005 أي قبل أربعة عشر عاما، قامت دنيا الصحويين ولم تقعد بدعوى أن ما في الرواية مجرد دعاوى كاذبة وأوهام، برغم أن ما في الرواية محاكاة واقعية لفئة اجتماعية متمدنة موجودة لمواطنين سعوديين، ويبقى السؤال الذي نحاول الإجابة عنه في هذا المقال: ما علاقة رواية رجاء الصانع (بنات الرياض) بمن يستبدل المواعظ الصحوية التقليدية بمواعظ الهوية والثوابت؟ الجواب أن الأمر في حقيقته البنيوية ليس راجعا لتقاليد صحوية أو أزمات هوية بقدر ما هي عقلية القرية والبادية عندما تحاول الهيمنة بلغة الدين أو الحداثة على الفضاء العام للمدينة، وهذه الظاهرة ليست جديدة فقد أشبعها علماء الاجتماع بحثاً تحت ما سموه (ترييف المدن/من الريف) وقد يتجاوز الأمر ترييف المدن إلى (بدونتها/من البداوة)، ولهذا فعندما يخرج ابن البادية أو الريف إلى المدينة بطابعها (الكوزموبوليتي) الذي يمنحها لقب (مدينة) ولولا هذا الطابع لما كانت مدينة بل ستكون في أقصى حالاتها (بلدة) تهيمن عليها روح القرية. عندما يخرج ابن البادية أو القرية إلى المدينة فإنه يقاوم كل ما يعطي المدينة طابعها (التعددي، المتسامح، الفرداني) ليجعلها بنكهة القرية والبادية ذات اللون الواحد والشكل الواحد، بل وحتى الطباع الواحدة، وهذا ما يسمى ظاهرة (ترييف المدن) فبدلاً من التطبع بتقاليد المدينة المنفتحة بطبيعتها، والتي تعطي كل غريب قادم إليها دروس الفردانية والاستقلال الفكري والاجتماعي ليتعايش وفق منظومة الاحترام المتبادل، وبدلاً من ذلك نجد بعض أبناء الريف وقد صنعوا لهم غيتوهات تمنع عنهم أوكسجين (الروح المدنية) فيحافظوا على عاداتهم داخل المدينة، فكل أبناء الريف والبوادي قد يسكنون المدينة ولكنهم في الغالب الأعم يفكرون بعقل ابن الريف حتى وهم داخل المدينة، بل ويحتفظون بهذه العقلية رغم مضي عقد أو عقدين وهم داخل المدينة، والغيتوهات المصطنعة داخل المدينة لتَجَمُعِهِم الريفي تَحُول بينهم وبين الاندماج في الحالة الفردانية لابن المدينة إلا في أضيق نطاق. هوية أي بلد ليست ألوانا محددة وخاصة إلا في العلم المرفوع على سفاراته حول العالم، وليست موسيقى ثابتة وكلمات واحدة إلا في النشيد الوطني الخاص به، وما عدا ذلك فعبارة عن فلكلورات وعادات مختلفة خصوصاً إذا كانت دولةً بمساحة (المملكة العربية السعودية). هوية أي بلد هي مجمل تاريخه الثقافي الذي قد تختزله في قرنين من الزمان، أو تجعله ممتداً عبر التاريخ من قرية الفاو وحتى دومة الجندل إلى آثار نجران كما هي حقيقة بلادنا السعودية، إنها مهد الديانات السماوية منذ آلاف السنين، وهو ما توجهت له رؤية 2030 كمكسب تراثي تاريخي سياحي على مستوى العالم. هوية أي بلد لا يمكن أن يربكها مجموعة من الراقصين في حفل غنائي، فالرقص من غير فوضى طبيعة مقترنة مع الغناء فَلِمَ الارتباك؟!، ولم خلط الأوراق بين ما تفرضه المدينة من انفتاح وتعددية، وبين ما يريده ابن القرية من معايير تصلح لقريته الصغيرة في وسط البادية، ولكن نفس المعايير ستصبح متزمتة قطعاً في مدينة تحوي أكثر من أربعة ملايين نسمة من مختلف الأذواق والأعراف والتقاليد؟!. ابن خلدون قبل سبعة قرون تحدث عن الفروق بين الطباع والهيئات التي تصنعها الجغرافيا، فلماذا نجد من يريد فرض هوية ومزاج وطباع القرى والأرياف على حفلات هيئة الترفية التي خصت بها المدن الكبرى في المملكة؟، ومن يخرج من قريته إلى المدينة وعقله لم يخرج معه إلى المدينة فسيثير حفيظته كثير مما في المدينة حتى قبل أن توجد أنشطة الترفيه، فأزمة الصراع بين الريف والمدينة أزمة قديمة لا يتجاوزها إلا من استطاع استيعاب هذه العبارة: (من السهل أن تخرج الإنسان من العصر الحجري، لكن من الصعب أن تخرج العصر الحجري من عقل الإنسان). عقلية القرية سيفاجئك ارتباكها قبل نصف قرن أن تشق طرق المواصلات أرضها، لتراها تعترض، فهي لا تريد طريق السيارات الذي يأخذ من أرضها الزراعية، بل ويفاجئك قديماً أن التعليم في القرى كان يحتاج من الدولة أن تصرف للطلاب مكافآت كإغراء للأهالي ليدفعوا بأبنائهم للمدارس، فهم يرون رعي الغنم أهم من طلب العلم. لا تظنوا الأمر تغير كثيراً فما زال بعض أبناء الريف والبادية يرتبكون مع أي تغيير جديد، وقد كانوا يجدون في الصحوة داعماً لهم في محاربة كل جديد، والآن ها هم يتكئون على شعارات حداثية من نوع (الهوية) خوفاً على أنفسهم من حفلات لم يجبرهم أحد على حضورها، ولكنها تتقاطع مع أذواق كثير من الشباب السعودي الذي ولد وعاش في المدن السعودية الكبرى، ولا يعرف الريف أو البادية، بل جولة سريعة على أرقام السعوديين المقيمين شبه الدائمين في بلدان العالم مع عائلاتهم يعطينا تصورا أكثر واقعية واتساعاً عن تعدد المشارب لأبناء هذا الوطن. قد يعترض معترض ويقول: يضايقني بعض ما أراه من أنشطة هيئة الترفيه، رغم أني من مواليد المدن الكبرى ولا أعرف القرية التي ينتمي لها أجدادي، فنجيب عليه: أنت لا تعرف القرية (جغرافياً) لكنك ما زلت ابنها (إيديولوجياً) فوالدك أو جدك، فور وصوله للمدينة قبل عقدين أو نصف قرن اتجه للغيتو الخاص بقريتكم وقبيلتكم داخل المدينة، وأثبت لهم فروض الولاء والطاعة قبل أن يتقدم بأوراق مباشرته للقطاع العام أو الخاص الذي وجد فيه لقمة عيشه الكريمة. شكراً لهيئة الترفية على كل ما تقوم به وننتظر مزيدا مما يؤهل مجتمعنا لاستيعاب أوسع الاستثمارات السياحية والاقتصادية، فهيئة الترفية عدا أنها تبذل جهدها لترفيه قطاع كبير جداً من الشعب إلا أن القضاء على التوحش في المزاج والذوق مهمة أخرى قد يقاومها من يطربه إطلاق النار في المناسبات والأعراس رغم الضحايا البشرية، ولا يطربه بل ويزعم أنه يخدش حياءه سماع صوت الراقية جداً (لارا فابيان) في أغنيتها الشهيرة (جوتيم)، بقي سؤال هو ما ننشغل به عن الحجج المفتعلة باسم (الهوية): هل نحن مستعدون (ثقافياً واجتماعياً) للمنافسة في العقود القادمة مثلاً لاستضافة كأس العالم في كرة القدم، أو حتى لاستضافة أي أولمبياد أو مهرجان عالمي آخر. ختاماً: كل ما يعيق المجتمعات عن المشاركة في الفعاليات الإنسانية العالمية، لا علاقة له بالهوية لا من قريب ولا من بعيد، لكن قطعاً له علاقة بأزمات نفسية أو اقتصادية أو اجتماعية قد يستطيع تجاوزها الفرد والمجتمع وقد لا يستطيع، فهوية فرنسا مثلاً لم يربكها وجود (المسجد الكبير) في باريس كما يتوهم متزمت مسيحي أو متزمت علماني، ولهذا من حقنا الهمس في آذان البعض لنذكرهم بأن هشاشة بعض أبناء الريف والبادية إذا ترافعوا عن هوية المدن الكبرى أحالوها إلى قرى وهم لا يشعرون.
مشاركة :