"الماغنا كارتا"، التي كُتِبت منذ أكثر من ثمانمئة عام، كانت اجتهاداً بشرياً، وكانت البداية التي طورت منها بريطانيا ومعظم الشعوب الأوروبية قواعدها الحالية المتعلقة بسيادة القانون وبالديمقراطية والحقوق الشعبية، حتى أصبحت على ما هي عليه الآن، وهي محل تبجيل وتعظيم عندهم، ومازالت بعض فقراتها تمثل المرجعية القانونية في بريطانيا. في المتحف الملحق بكاتدرائية مدينة ساليسبيري في إنكلترا اطلعت على النسخة الأصلية للماغنا كارتا (الوثيقة العظمى)، وهي عبارة عن صفحة واحدة كبيرة مكتوبة باللغة اللاتينية وبحروف صغيرة جداً محفوظة بعناية في هذا المتحف في غرفة صغيرة، حيث يمنع تصويرها خوفاً من تأثير الضوء الساطع على حروفها. وبجانب الغرفة الصغيرة المخصصة للوثيقة لوحة كبيرة تحكي قصة ولادتها. فقد كُتِبت عام 1215م بعد أن خسر ملك إنكلترا (جون) حروبه في فرنسا، محاولاً الاحتفاظ بممتلكاته فيها، بعد أن أرهق الكنيسة والنبلاء والشعب بالضرائب وبالحروب وبالقرارات المنفردة. وفي لوحة مجاورة تعريف بهذه الوثيقة كُتِب فيها أن النبلاء والكنيسة أجبروا الملك بعد ستة عشر عاماً من الحكم الفردي على توقيع هذه الوثيقة التي تثبت حقهم في المشاركة في القرارات المتعلقة بالحروب والضرائب، وتخضع الجميع لسلطة القانون وتعطي للكنيسة حريتها وتحد من سلطة الملك، وتفصيلات أخرى كثيرة. الماغنا كارتا التي كُتِبت منذ أكثر من ثمانمئة عام كانت اجتهاداً بشرياً، وكانت البداية التي طورت منها بريطانيا ومعظم الشعوب الأوروبية قواعدها الحالية المتعلقة بسيادة القانون وبالديمقراطية والحقوق الشعبية، حتى أصبحت على ما هي عليه الآن، وهي محل تبجيل وتعظيم عندهم، ومازالت بعض فقراتها تمثل المرجعية القانونية في بريطانيا. ومن المؤسف أن لدى المسلمين وثيقة ربانية اُنزلت، أعظم من الماغنا كارتا، منذ أربعة عشر قرناً، ولكنهم أهملوها ولم يعملوا بها حق العمل في القرون الأخيرة، فلم يتقدموا بل تخلفوا وأصبحوا يستوردون بعض أصول الحكم والقانون والحقوق من غيرهم، مع أنها موجودة بين أيديهم، ففي المشاركة في الحكم والقرار قال تعالى: "وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ"، وفي الأموال قال سبحانه: "وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ"، وفي الأموال أيضاً قال عز وجل: "كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ"، وفي حق الفقراء من أموال الأغنياء، قال من لا إله سواه: "الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ"، وفي المساواة بين البشر قال الله كلماته: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ"، وفي إقامة العدل قال جل شأنه: "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ"، وفي المسؤولية الشخصية لكل إنسان عن عمله، قال سبحانه: "أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ"، وفي عدم الاعتداء، قال تقدست أسماؤه: "وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ"، وفي العناية باليتامى قال جلت صفاته: "إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا"، وفي العناية بالأسرى، قال العزيز الكريم: "وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا"، وفي النساء، قال الرؤوف الرحيم: "وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ". هذه القواعد والأصول العظيمة وغيرها مما جاءت السنة النبوية بتفصيلها وبيانها لا يستطيع أي اجتهاد بشري أن يأتي بمثلها، ولكن للأسف مازالت كثير من بلاد المسلمين، باستثناء الكويت وقليل غيرها، تمارس الحكم الفردي والظلم وأكل أموال الناس بالباطل، وسيطرة الحكم على المؤسسات الدينية والقضائية، مما يخالف الهدي الرباني ويعيدها إلى الوضع الذي تجاوزته الأمم الأخرى منذ قرون. والخلاصة... جلستُ في المتحف حوالي الساعة أحاول قراءة الترجمة الإنكليزية المعقدة للماغنا كارتا التي كتبت من واقع وأحداث ذلك العصر، وفي النهاية طويتها وأنا أردد البيت الخالد لشوقي رحمه الله: فلم أرَ غيرَ حُكمِ اللهِ حُكماً ولَمْ أرَ دونَ بابِ اللهِ بابا
مشاركة :