من المؤكد ان محبي السينما العربية وروايات إحسان عبد القدوس المقتبسة اليها، في أواسط سنوات الخمسين ما إن سمعوا برواية «صباح الخير أيها الحزن» تأتيهم أخبارها - متأخرة كالعادة - من فرنسا واطلعوا على موضوعها وحبكتها من خلال التلخيصات قبل أن تترجم الى العربية، ضحكوا ساخرين وقد اعتقدوا ان الرواية الفرنسية التي كانت تثير ضجة ما بعدها ضجة، إنما هي مسروقة من رواية «لا أنام» لعبد القدوس والتي كان المخرج صلاح أبو سيف قد حولها الى فيلم من بطولة فاتن حمامة حقق نجاحاً هائلاً في ذلك الحين. غير ان الحقيقة التي لم يعرفها المتعجلون كانت على عكس ذلك تماماً. كانت الرواية والفيلم العربيان «مستوحيين» من العمل الفرنسي الذي وقع كالقنبلة يومذاك في وسط الساحة الثقافية الفرنسية ليعلن، من ناحية مولد اديبة شابة المدهش انها لم تكن تتجاوز التاسعة عشرة من عمرها، ومن ناحية ثانية، مولد نوع من الأدب الشعبي - الوجودي المتمرد على القيم الإجتماعية والمواثيق الأدبية الراسخة. وقبل الحديث عن هذا لا بد أولاً من التذكير بموضوع الرواية الفرنسية، تاركين للقارئ العربي تقدير مدى التشابه «غير المقصود» بينها وبين رواية إحسان عبد القدوس الذي لن تكون تلك على اية حال المرة الأولى ولا الأخيرة التي «يستلهم» فيها عملاً أجنبياً وينسبه الى نفسه... وصولاً الى رواية «بئر الحرمان» التي تحولت في مصر الى فيلم رائع من بطولة سعاد حسني قبل ان يتبين انها مأخوذة بحذافيرها من حالة سيكولوجية أميركية سيكون الأدهى من هذا ان «كتاب الهلال» القاهرة سيترجمها ويصدرها في العربية ليقول البعض: ها هم الأجانب يسرقون كاتبنا العربي الكبير مرة أخرى!! > تتحدث رواية فرانسواز ساغان عن سيسيل ابنة السابعة عشرة التي تمضي ذات صيف في فيلا على الريفييرا الفرنسية مع ابيها وصديقته. والأب زير نساء معروف بخوضه علاقات متتالية، اما علاقته الأخيرة فكانت مع الحسناء السا التي ترتبط بصداقة طيبة مع ابنته... وإذ يمضي الأيام وسط لهو وودّ في الفيلا يحدث ان تصل ذات يوم السيدة آن التي تبدو مختلفة بثقافتها واناقتها وحسن مسلكها عن النساء اللواتي اعتاد الأب مصاحبتهن، ولا سيما عن السا التي تتوجس شراً من قدومها. وبالفعل يتحقق حدس السا إذ يعلن الأب ريمون وآن ذات صباح انهما سيتزوجان. صحيح ان سيسيل كانت قد ابدت إعجاباً بآن، غير الأمور ستتبدل من ناحية إذ يخفف ريمون من اهتمامه بابنته لمصلحة خطيبته ما يثير حنق هذه وغيرتها، ومن ناحية تحت تأثير إلسا التي تبدأ بتحريض سيسيل ضد الدخيلة الجديدة... وهكذا تبدأ سيسيل بتدبير المؤامرات - تماماً كما الحال في «لا أنام»... - لينتهي الأمر بآن الى السقوط من أعلى هاوية فيما يشبه الانتحار، بينما يعود الأب وابنته الى الفراغ الصيفي في الفيلا من جديد كما كانا قبل وصول آن. > والآن لنعد من الرواية نفسها الى تلك «القنبلة» التي فجرتها في الحياة الثقافية الفرنسية في ذلك الحين لننقل عن بعض النقاد الفرنسيين قولهم بأنه لو كان في وسع الصدف ان تدبر الأمور كما تشتهي، لصار في وسعنا ان نقول ان موت الكاتبة الفرنسية الكبيرة كوليت في شهر آب (أغسطس) 1954، انما اتى بعد شهور قليلة من بروز ظاهرة فرانسواز ساغان ليجعل الأمور تبدو وكأن صاحبة «شيري»، لم تغمض عينيها للمرة الأخيرة، الا بعد ان تيقنت من ان صاحبة «صباح الخير أيها الحزن» ستكون خليفتها في شكل او آخر، وتكمل الرسالة. > ففي شهر أيار (مايو) من ذلك العام كانت قلة من النخبة القارئة قد سمعت مسبقاً باسم تلك الفتاة ذات التسعة عشر ربيعاً، والتي انطلقت منذ ذلك الحين صاخبة، ليس في فضاء الادب الفرنسي وحده، بل في فضاء الادب النسائي في العالم اجمع. ولا سيما انه حدث حينه بعد صدور الرواية بأسابيع قليلة ان منح النقاد الفرنسيون جائزتهم الربيعية لرواية «صباح الخير ايها الحزن» ليجعل فرانسواز ساغان كاتبة من أشهر كاتبات العالم، بل ليجعل منها ظاهرة اجتماعية - أدبية تكاد تلخص وحدها ما عجزت الوجودية كلها عن ايصاله الى القطاعات العريضة من الناس. > كانت انطلاقة فرانسواز ساغان على ذلك النحو. ومنذ البداية كانت لهذه الكاتبة الخارجة لتوها من سنوات المراهقة، نزواتها، ولعل اشهرها لامبالاتها التامة حين نُقل اليها نبأ فوزها بـ «جائزة الربيع الادبية الكبرى» لذلك العام، وهي الجائزة التي كانت اعطيت قبلها لألبير كامو. كان من الواضح انه مجد لا يمكن لصبية مثلها ان تحلم به، فكيف كان رد فعلها حين ابلغت النبأ؟ قالت لتوها: حسناً... وماذا في الأمر؟ ثم حين طلب اليها ان تأتي لتناول العشاء مع اعضاء لجنة التحكيم اعتذرت متذرعة بأن لديها موعداً مع اصدقائها. في النهاية جاءت الى حفل العشاء فاستقبلها كبار نقاد ذلك الحين بكل آيات التبجيل. وفي تلك اللحظات بالذات ولدت اسطورتها. > والحقيقة أن اسطورة فرانسواز ساغان ارتبطت في ذلك الحين بالنضالات من أجل حرية المرأة، لكنها ارتبطت كذلك بالسجائر المدخَّنة بنهم، وبالحديث المتلعثم والسيارات السريعة. وكذلك ايضاً بالأدب النسائي المتحدث عن تجارب حياتية معيوشة، والمنتمي الى نزعة وجودية قد تكون سطحية وبعيدة من الفلسفة الوجودية نفسها، لكنها تنتمي على أي حال الى نظرة الى الحرية والالتزام بالتحرر، والى مبالاة ترتبط جميعها، على الأقل بالصيغة الشعبية المتداولة للمذهب الوجودي. ولما كانت تلك السنوات (اواسط الخمسينات) زمن انطلاقة المجتمع من قيوده وبدء المرأة بالبحث عن هويتها، ليس فقط تجاه الذكر - «عدوها» الأبدي - بل ايضاً تجاه المجتمع الذي تريد ان تتملكه (لا ان تفرض حضورها فيه فقط)، كان من الطبيعي لأدب فرانسواز ساغان ان يلاقي ما لاقاه من نجاح ساحق، أولاً عبر «صباح الخير أيها الحزن» ثم عبر نصوص مثل «ابتسامة ما» (1956) و «في شهر... في سنة» (1957) و «هل تحب براهمز» (1959) و «السحب الرائعة» (1961)، وصولاً الى «المرأة المتبرجة» و «مع أفضل ذكرياتي» وغيرها. في كل هذه النصوص، التي سرعان ما كانت تنقل الى شتى اللغات ومن بينها اللغة العربية بالطبع، كانت فرانسواز ساغان تمزج الاجتماعي بالشخصي والثوري بالعاطفي، وكل هذا وسط نزعة اخلاقية لا شك فيها، تصل احياناً الى حدود الوعظ. > أدب فرانسواز ساغان أثر، في ذلك الحين، على معظم الأدب النسائي في العالم كله، وكان له في لغتنا العربية مقلدات من كوليت خوري الى ليلى بعلبكي، الى غادة السمان (فقط في بداياتها). ولعل الأشهر بين الذين قلدوا فرانسواز ساغان... احسان عبدالقدوس، الذي، كما أشرنا أعلاه اتهم بأنه «استلهم» كي لا نقول اقتبس، بعض رواياته من نصوصها، وبخاصة روايتاه «أنا حرة» و «لا أنام». مهما يكن فإن البعض يقول ان مثل هذا الاتهام ليس دقيقاً، ولكن من الواضح ان احسان عبدالقدوس تأثر بموجة فرانسواز ساغان، فجعله تأثره هذا ينفح الادب العربي بأعمال دافعت عن حرية المرأة وتتسم غالباً بنزعة وعظية لا مراء فيها. > اليوم، بعد ستين عاماً على بداية وصولها الى المجد الأدبي والاجتماعي الكبير، لم تعد مكانة فرانسواز ساغان، في الأدب الفرنسي، مثلما كانت عليه في ذلك الحين، بخاصة أنها ظلت واقفة عند مواقعها وحبكاتها العاطفية وصرخاتها التحررية، في زمن تجاوز كل هذا تجاوزاً كبيراً، بحيث باتت حبكات فرانسواز ساغان تبدو اليوم مفتعلة احياناً، ومملة في معظم الاحيان. غير ان هذا لا يمنع من القول ان لها مكانتها الدائمة في الأدب الفرنسي، وهي مكانة جعلت احد النقاد يكتب عنها أخيراً قائلاً: «إنها امرأة متمدنة تعرف كيف تفرق بين الخير والشر، بين الوهم والحقيقة، من دون ان تفقد برودة أعصابها. إنها، بمعنى من المعاني، لا تزال مفيدة لنا». فهل معنى هذا انه لئن كان الزمن قد تجاوز فرانسواز ساغان الأدبية، فإن فرانسواز ساغان كظاهرة اجتماعية وليدة ذهنية عصر معين، لا تزال مفيدة حتى الآن؟ ربما.
مشاركة :