النسخة: الورقية - دولي كتاب واحد قد يصنع في أحيان قدر كاتب لاسيما إذا كان كتابه الأول أو «باكورته» الأدبية كما يقال، فيقع الكاتب ضحيته ويصبح عبئاً عليه، ولا يتمكن طوال مساره الأدبي ان يتخلص منه. يُسمى الكاتب باسم هذا الكتاب وكأنه لم يكتب سواه، مع ان كتبه توالت من بعده ولكن من غير أن تحظى برواجه وشهرته. وبعض الكتب التي تليه قد تكون اهم منه وأفضل، لكنه كان سبّاقاً في إسباغ اسمه على الكاتب ووسمه به. ومهما أقبل القراء والنقاد على اعمال أخرى لهذا الكاتب وأحبوها، وكالوا لها المدائح، فهو يظل صاحب الكتاب هذا وأسيره. ظل الطيّب صالح على سبيل المثل سجين روايته «موسم الهجرة الى الشمال»، وهي وإن صنعت مجده الأدبي ورسّخت مكانته في الحركة الروائية العربية، لم تكن اهم اعماله التي صدرت لاحقاً ومنها «عرس الزين» و»مريود»... وفي هذا القبيل يمكن إدراج ديوان انسي الحاج الأول «لن» الذي ذاعت شهرته، وبخاصة مقدمته التي عُدّت أول بيان لقصيدة النثر العربية. طغى الديوان الأول هذا على سائر اعمال الشاعر البديعة واستأثر بالكثير من النقد حتى ان صاحبه سئم أخيراً من الكلام عنه وعن مقدمته. هذه القضية، قضية الكتاب «القدري» التي عاناها كتّاب كثر، وسمت أيضاً مصير الكاتبة الفرنسية الشهيرة فرانسواز ساغان، فهي وقعت ضحية روايتها الأولى «صباح الخير أيها الحزن» التي يحتفل الوسط الأدبي والإعلامي الفرنسي الآن بالذكرى الستين لصدورها (1954) وقد صادفت الذكرى العاشرة لرحيلها شبه التراجيدي عام 2004، فهي ماتت فقيرة جداً وملاحقة قضائياً بـ «تهمة» التهرّب من دفع الضرائب. وفي هاتين الذكريين عادت ساغان الى الواجهة، وهي لم تغب عنها أصلاً، من خلال كتب تعاود قراءة ظاهرتها الفريدة أو اسطورتها التي نادراً ما تتكرر. سمّيت ساغان وما زالت، صاحبة رواية «صباح الخير أيها الحزن» التي أصدرتها عام 1954 وكان لها من العمر ثماني عشرة سنة. وما إن أصدرت روايتها هذه حتى لمع نجمها، واستطاعت ان تحقق مقولة «الكاتبة المراهقة» التي عرفت المجد باكراً جداً. وبدت عبر هذه الرواية مرتبطة تمام الارتباط بهموم جيلها، الجيل الفرنسي الجديد، الطالع من مأساة الحرب الثانية والساعي الى التمرد على كل السلطات الزمنية والروحية. وهنا كمن سر نجاح هذه الرواية وسر رواج ظاهرتها. لكنّها أدبياً أو روائياً لم تأتِ بجديد خصوصاً إذا قورنت بـ «موجة» الرواية الجديدة التي كانت في أوجها حينذاك مع اسماء كبيرة مثل آلان روب غرييه وميشال بوتور وناتالي ساروت ومارغريت دوراس وسواهم. لعل رواية «صباح الخير أيها الحزن» التي صنعت مجد ساغان وشهرتها هي خير مدخل الى قراءة ظاهرتها وصنيعها الروائي، مع انها باكورتها التي لا تخلو من هنّات البدايات. إنها رواية مسليّة كما يقال، لكنّ ساغان، على ما يبدو، كتبتها بسرعة تحت وطأة أزمة المراهقة. ولم تمضِ أسابيع على صدورها حتى فازت الرواية بجائزة «النقّاد» وحظيت برواج كبير لم تحظَ به اسماء كبيرة. واللافت ان روائياً رائداً مثل فرنسوا مورياك تحمّس لها وكتب عنها في الصفحة الأولى في جريدة «لو فيغارو» قائلاً: «وحش ساحر في الثامنة عشرة، لكنّ جدارتها الأدبية تنبثق منذ الصفحة الأولى». أما ساغان فسمّت روايتها هذه «فضيحة عالمية» وقالت عنها: «هذه رواية غريزية وماكرة، تستخدم الشهوانية والبراءة بالتساوي». وقيل عن الرواية أيضاً إنها «إحدى أهم روايات «البست سيلرز» في مرحلة ما بعد الحرب الثانية. إنها رواية «سيسيل» البطلة المتمردة، ابنة السبعة عشرة عاماً التي تعيش حياتها موزعة بين «سيريل» جارها الشاب، ووالدها الأربعيني الأرمل، العاشق الطائش والساحر والخائن... وعندما يقرر الوالد ان يتزوج من عشيقته الثانية، تخشى الابنة فقدان حال الرخاء التي تتقاسمها مع ابيها، وكذلك «مصيرها» المنتظر على يد الزوجة التي ستعيد «صنعها» هي ووالدها معاً. تقرر «سيسيل» الوقوف ضد تدمير عالمها وتبدأ لعبتها «الشريرة» في مواجهة الأب وخيانته. إنها إذاً رواية «سيسيل» الابنة التي يقارب عمرها عمر فرانسواز ساغان الكاتبة، وقد منحتها حريتها في العيش والحب والتمرد والمواجهة والتداعي... إنها رواية جيل بل أجيال، رواية العلاقة المتوترة بين الأب والابنة، رواية الخيانة، رواية الصراع اليومي في قلب العائلة شبه المفككة. عرفت رواية «صباح الخير أيها الحزن» نجاحاً في كل اللغات التي ترجمت إليها، وكان لها أثرٌ في جيل من الروائيات المتعاقبات. ولم تنجُ من هذا الأثر روائيات عربيات. ونجحت الرواية في ترجمتها أو ترجماتها العربية، وما برحت حاضرة في المكتبة العربية حتى الآن.
مشاركة :