يومها، حتى السينمائي المعروف بمشاكسته وعدم قدرته على امتداح أي شيء، جان لوك غودار، لم يفته أن يلاحظ حسنات كثيرة في الفيلم الذي حققه «الأميركي» أوتو بريمنغر عن رواية فرانسواز ساغان الشهيرة «صباح الخير أيها الحزن»، فقال ما معناه أن جين سيبرغ بدت له في الفيلم، من خلال دور سيسيل، وكأنها تستبق دورها في فيلمه «على آخر رمق» إلى درجة «أنني لو أخذت آخر لقطة في فيلم بريمنغر ووضعتها أول لقطة في فيلمي، لما أحسّ أحد بأن ثمة فارقاً بين الدورين». طبعاً لا يمكن أن يكون هذا صحيحاً إلا في البعد الأخلاقي إذ إن الدورين شريران وفيهما خيانة هي لب الموضوع. مهما يكن، في الإمكان اعتبار كلام غودار مجرد تعبير عن نظرة إيجابية لذلك الفيلم «الفرنسي» الذي حققه أوتو بريمنغر في العام 1958 فكان نجاحه محدوداً، لكنه على الأقل ساهم في تعزيز شهرة صاحبة الرواية عالمياً في وقت أعلن فيه أن بريمنغر لم يعد على الموضة ولو أن موضوع الفيلم كان، هو، على الموضة: تمرّد الشباب وصراع الأجيال، ودخول السيكولوجيا حلبة السينما (هنا من خلال ما يسمى بعقدة إلكترا)... الخ. فالفيلم يتحدث عن صبية حسناء (سيسيل) تمضي إجازة الصيف مع أبيها الذي يقدَّم كزير نساء، لكنه بات الآن مرتبطاً بسيدة حسناء مستقيمة كان من الواضح أن دخولها حياته سوف يضع حداً لحياته العابثة وتكاثُر صديقاته. وهذا الأمر من الواضح أنه لا يسرّ سيسيل كثيراً فهي إذا كانت ترضى من أبيها علاقاته العابرة الماجنة التي تبقيه لها في نهاية الأمر، لن يكون من شأنها أن توافق على ارتباطه بسيدة «من نوع آخر» تستولي عليه كلياً. وبهذا تبدأ مناوراتها ومؤامراتها مع واحدة على الأقل من السيدات اللعوبات المحيطات بالأب كي تدمر علاقته بالسيدة الأخرى... ولسوف تكون النهاية فجائعية بالنسبة الى سيسيل التي ستدفع غالياً ثمن ما تفعله... > واضح هنا أن أي قارئ عربي لهذا المقال سوف يتذكر من خلال ما نروي، وحرفاً بحرف، فيلم «لا أنام» لصلاح أبو سيف ويطالعه وجه فاتن حمامة وهي تبدع في أداء دور مطابق لـ «سيسيل»... وقد يقول هذا القارئ في نفسه، إذ يلاحظ أن «لا أنام» حُقق قبل «صباح الخير أيها الحزن»، أن هذا الأخير «ملطوش» من الفيلم المصري. لكن القراء الذين يعرفون أن فيلم بريمنغر مقتبس من رواية لفرانسواز ساغان نشرت عام 1954، وأن أبو سيف اقتبس فيلمه من رواية لإحسان عبد القدوس نشرت بعد حين من صدور الرواية الساغانية سيدركون حقيقة الأمر وأن عبد القدوس «استوحى» أصلاً روايته الكبرى هذه من رواية الفتاة العشرينية التي كانتها فرانسواز ساغان حين أطلت على العالم بروايتها - القنبلة تلك... لكن هذا كله بات من الماضي. أما موضوعنا هنا فهو أوتو بريمنغر نفسه الذي كان يريد من خلال «صباح الخير أيها الحزن» أن يخلق لنفسه آفاق إبداع جديدة، بعدما بدأت الماكارثية تحاربه في هوليوود في سياق حملتها الشعواء ضد كل ما هو يساري أو تقدمي أو حتى «روزفلتي». لكن هذه حكاية أخرى... > عندما يُطرح، في شكل أو في آخر، سؤال أساسي يتعلق بالسبب الذي جعل السينما الأميركية ناجحة، ومن دون منافس على الإطلاق، تتنوع الإجابات. غير أن هناك دائماً جواباً واحداً يتفق عليه مؤرخو السينما ونقادها، على رغم أن هذا الجواب يظل عصياً على الفهم بالنسبة الى عشرات الملايين من متفرجي السينما الأميركية والمتأثرين بها، هذا الجواب هو أن هذه السينما هي السينما العالمية (بمعنى: كوزموبوليتية) بامتياز. فحتى إذا كانت سينما هوليوود قد انطبعت على الدوام بطابع السينما التي تحكي الحلم الأميركي وما شابه ذلك، إلا أن قيمها كانت دائماً قيماً كونية، بمعنيين: التأثر والتأثير. والعامل الأساسي الكامن وراء عالمية وكونية هذه السينما، هو نفسه العامل الكامن وراء شمولية المجتمع الأميركي وكوزموبوليته: تدفُق المهاجرين الآتين من شتى الأصقاع الى أميركا، وكل منهم يحمل تراثه وسمات ثقافته وتاريخه، ليضيفها الى ما لدى «الأميركيين» أنفسهم. من هنا، ولحصر الحديث عن السينما الهوليوودية، تعود الذاكرة الى نهاية الربع الأول من القرن السينمائي الهوليوودي، والى مئات السينمائيين والكتاب الذين راحوا يتدفقون على عاصمة السينما، إما هاربين من أوضاع غير ملائمة سادت بلدانهم، وإما باحثين عن مكان في جغرافيا فن سابع بدأ، ولا سيما مع زمنه الناطق، يحل محل الفنون الأخرى. > ولئن كان المبدعون الإنكليز من أوائل الذين قصدوا هوليوود، فصاروا جزءاً منها تساعدهم على ذلك لغة مشتركة وهموم مشتركة وتاريخ مشترك انغلوساكسوني، فإن الإيطاليين لم يكونوا أقل منهم تدفقاً. غير أن التجديد الأساسي بدأ يطرأ على هوليوود، ذهنية وأشكالاً، مع قدوم العديد من مبدعي أواسط أوروبا، اليها، ولا سيما الألمان والنمسويين منهم. وهؤلاء بعد أن أسسوا سينما مزدهرة، فنياً والى حد ما تجارياً، في بلدانهم، كان لا بد لهم مع اشتداد القمع النازي من أن يفروا، لأن معظمهم كان إما يسارياً وإما يهودياً. و «الصنفان» كانا يلقيان ترحيباً في هوليوود التي كانت استنفدت مخزونها الفكري والجمالي في ذلك الحين وتبحث عن دماء جديدة. > وكان بريمنغر من بين النمسويين الذين قصدوا هوليوود في العام 1935، وهو كان في الأصل ممثلاً يعمل مع ماكس رينهاردت في فيينا، ثم حقق فيلماً أولَ له بالألمانية هو «الحياة الكبيرة»، غير أن هذا الفيلم كان فيلمه الجرماني الأخير، لأنه سرعان ما رحل الى الولايات المتحدة، ووجد لنفسه مكاناً فيها، وصار واحداً من كبار الهوليووديين، الى درجة أن اسمه كان في «القائمة السوداء» الماكارثية أوائل الخمسينات باعتباره «يؤثر سلباً في عقول المتفرجين»، و «ينشر الدعاية الشيوعية». > مهما يكن من يسارية بريمنغر، فإن صهيونيته عادت وغلبت عليه في أوائل الستينات، حين حقق فيلم «اكسودس» الذي تسبب في منع أفلامه من العرض في البلدان العربية. لكن الجمهور العربي لم يخسر كثيراً بذلك المنع. فالحال أن الأفلام الكبرى والجيدة التي حققها بريمنغر كانت قبل ذلك التاريخ، ومنها، مثلاً، «لورا» من الأفلام التي لا تزال تحظى حتى اليوم بإعجاب ملايين المتفرجين. و «لورا» يذكرنا بأن بريمنغر عرف، في معظم أفلامه، كيف يجعل للمرأة دوراً أساسياً. ففي هذه الأفلام إما تكون المرأة محور الحكاية، ومحط رغبات وصراع الشخصيات الأخرى، أو تكون هي التي تقود الحكاية من الأساس. بمعنى أن النساء في أفلام اوتو بريمنغر، كن إما مهدّدات وإما مهدَّدات، ما يجعل تلك الأفلام تحمل نكهة جديدة لم تعرفها كثيراً، السينما الهوليوودية من قبل بريمنغر، ووصل الأمر الى ذروته في ما يخص حديثنا هنا حين اقتبس فرانسواز ساغان، الكاتبة النسوية بامتياز في «صباح الخير أيها الحزن» الفيلم النسوي بامتياز، بدوره. > وكان بريمنغر حقق فيلمه الهوليوودي الأول بعنوان «تحت جلدك» في العام 1936، أي بعد عام من وصوله الى وطنه الجديد، وحقق فيلمه الأخير «العنصر الإنساني» في العام 1979 عن رواية لغراهام غرين. وهو بين العامين المذكورين حقق ما يقرب من أربعين فيلماً، تنوعت مواضيعها، بين الاجتماعي والبوليسي والتاريخي، وكانت له على الدوام نجاحات نقدية وضعته في مصاف مهاجرين آخرين مشهورين مثل اليوناني - التركي ايليا كازان، والهنغاري مايكل كورتز، والألماني دوغلاس سيرك. ولكن لئن كان بريمنغر عرف عصره الذهبي خلال الأربعينات والخمسينات ولا سيما في أفلام مثل «لورا» حيث أبدعت جين ترني في واحد من أجمل أدوارها، و «نهر بلا عودة» حيث كشفت مارلين مونرو أنها ممثلة جيدة، لا مجرد شكل جميل وحسب، و «كارمن جونز» و «القديسة جان» عن جورج برناردشو، و «تشريح جريمة» (1960)، فإن أفلام عقده الأخير من النشاط السينمائي دخلت كلها في مهب النسيان، باستثناء «باني ليك فُقدت» (1965) الذي ذكّر متفرجيه بأمجاده الكبيرة، لكنه كان كأغنية البجعة، صرخة النهاية. وحين رحل اوتو بريمنغر عن عالمنا في عام 1986، كانت السينما تغيرت وهوليوود تبدلت وأضحى هو مجرد ذكرى صالحة للمتاحف.
مشاركة :