«صباح الخير أيّها الحزن» لفرنسواز ساغان ... لعبة قاتلة

  • 8/27/2013
  • 00:00
  • 33
  • 0
  • 0
news-picture

تجسّد الروائيّة الفرنسيّة فرنسواز ساغان (1935 – 2004) في روايتها «صباح الخير أيّها الحزن» (ترجمة هلا فرحات، الحكايات، بيروت) الحزن، تهيكله، وتخاطبه ككائن مشخّص مؤثّر، يحضر معها، لتوصل عبره رسالة مؤدّاها كيف أنّ المخطّطات التي توصَف بالطفوليّة أو الصبيانيّة يمكن أن تؤدّي إلى مآسٍ لا يمكن غفرانها أو تبريرها، وكيف أنّها تظلّ تؤثّر في النفوس بطريقة مفجعة، تخلق الحزن لأصحابها وتبقيهم رهائن له، وبالتالي يتحوّل ذاك الحزن إلى قيد بمرور الأيّام، ويحجب عنهم متعة الأشياء وبهجتها. تقسّم روايتها، التي نهلتها من سيرتها الذاتيّة، إلى قسمين. في القسم الأوّل، الذي يحوي ستّة فصول، تسرد الراوية سيسيل، وهي فتاة في السابعة عشرة من عمرها، حكاية اصطيافها مع والدها الأرمل الذي تتبادل معه الآراء حول الأمور الحياتيّة والغراميّة، تتّسم علاقتهما بتميّز وفرادة، تشعر بأبيها كصديق لها يبوح لها بما يعترك في داخله، ويستمع الى شكواها وبوحها، من دون أن يقيّدها أو يفرض عليها أمراً لا تقبله، ومن دون أن يستعمل سلطة الأب في المنع والإرغام. وحتّى حين ينوي توجيهها أو نصحها يفعل ذلك بسلاسة ومن دون أن تشعر منه بأيّ نفور أو قيود. وفي القسم الثاني الذي يحوي اثني عشر فصلاً، يكون سردها مشحوناً بالتندّم والحسرة، تسترجع عبر الاستذكار الأليم والتداعي الحرّ المفعم بالتخيّلات أحداثاً من الماضي، تكشف عن الوجه الداخليّ لها، وكأنّها في صدد إزاحة النقاب عن مشاعرها الغريبة والعدوانيّة، عساها تكفّر عن خطيئتها التي تسبّبت بنهاية امرأة كانت تمثّل لها الأمّ الغائبة بكلّ حنانها وحرصها. ريمون والد سيسيل، في العقد الخامس من عمره، يدأب على إقامة علاقات عابرة، يرى ذلك النوع من العلاقات متوافقاً مع طباعه المتقلّبة ومزاجه الخاصّ، ويعتاد على الحالة الموقّتة لأنّه لا يتحمّل قيود الزواج والارتباط، وقد أورث تلك العادة لابنته سيسيل التي تجد نفسها متماهية معه بنوع من المحاكاة السلوكية من دون تخطيط أو تدبير. دائرة العلاقات بالنسبة الى الأسرة الصغيرة تتشعّب في رحلة من رحلات التصييف، إذ تصحبهما آن عشيقة ريمون، وتلتحق بهما المرأة الأخرى إلسا التي تكون على علاقة بدورها بريمون، ما يوقع سيسيل ووالدها في محيط من التعقيد الذي يتمّ تبديده بالتبسّط والتأقلم مع الحالة. تميل سيسيل إلى إلسا، تجدها أنسب لوالدها وأقرب إليها، ناهيك عن جاذبيّتها وجمالها. أمّا آن فتجد فيها صورة المرأة الرؤوم التي تتعامل معها بطريقة أموميّة ومع والدها بطريقة مسؤولة. كما تجد سيسيل نفسها متعلّقة بشابّ من الجزيرة، سيريل، تبادله بعض القبلات، تخرج معه في رحلات بحريّة، تجول معه في أرجاء الجزيرة، وتنعم معه برفقة ممتعة، ترتاح لمشاعر الحبّ التي يغدقها عليها، وتحار إن كانت قد وقعت في حبّه أم أنّها تهرب من وحدتها إليه، وتأنس بوجوده إلى جنبها، وبخاصّة في بحر انشغال والده بعشيقتيه وتخبّطه بينهما وعدم نجاحه في إرضائهما معاً. تخطّط سيسيل بنوع من التلاعب الصبيانيّ والمكائد الطفوليّة للإيقاع بين والدها وآن، وبخاصة بعد إعلان والدها نيّته الارتباط بآن والزواج بها، ما دفعها إلى التمادي في مخطّطها للتفريق بينهما، وذلك بالتعاون مع إلسا وسيريل. وكانت خطّتها تقتضي أن يمثّل سيريل وإلسا دور العاشقين على مرأى من ريمون، بحيث يدفعه ذلك إلى الغيرة، وربما إلى السعي لاستعادة صديقته إلسا التي يكنّ لها المحبّة ويرتاح لوجودها معه. بالتزامن مع ذاك المخطّط المتهوّر، تسعى سيسيل إلى إشعار والدها بتسلّط آن على حياتهما وسعيها لتغيير ما درجا على التمتّع به من أريحيّة وانطلاق وتحرّر. وقد جاء قرارها في شكل خاصّ إثر تدخّل آن بعلاقتها مع سيريل وإسدائها النصح لها، وطلبها منها الانتظار بعد بلوغها الثامنة عشرة من عمرها، لأنّ الاندفاع سيؤثّر سلباً في مستقبلها. في الرواية التي تحوّلت إلى فيلم بالعنوان نفسه، يشكّل الزمن الماضي والحاضر والمستقبل لسيسيل بوتقة واحدة تأسرها، لأنّها تعتاد الحزن المديد المزمن وتدمنه، بحكم انتقالها من مرحلة مفعمة بالأحزان إلى أخرى، جرّاء فقد الأمّ ثمّ التنقّل وما تبعه من الأحداث التي تولّد لها الأحزان المتراكمة، فكانت تتبادل أنخاب الشراب مع والدها، وينطلق لسانها بالتعبير عمّا يؤلمها وما تشعر به إزاء المحيطين بها، وإن كان ذلك بوقاحة، يبرّر لها الآخرون ذلك نظراً إلى صغر سنّها واندفاع الشباب المعبّر عنها. الحزن النبيل، المرير، المحرّض، الذي تحاول الشخصيّات الهرب منه وتبديده يغدو ملازماً لها بمرور الأيّام، يتنقّل معها في الزمان والمكان، ولا تفلح محاولات التخلّص منه لأنّه يستقرّ في الأرواح ويتعمّق في الدواخل، ويقود تالياً إلى سجنه الشفيف الذي لا يستقيم معه أيّ شعور باصطناع الفرح أو تكلّف السعادة. وهو الحزن الذي يعرّف المرء إلى ذاته وعالمه، ويفتح الأعين والبصائر. الحزن المنير الذي يضيء الداخل الذي تحجبه عتمة الأنانيّة وترهنه للملذّات الآنيّة فقط. يحضر لدى ساغان انشغال على الحالات النفسيّة لفتاة مراهقة، تصوّر حالة التخبّط العاطفيّ التي تحياها، والتي تدفعها إلى القيام بتصرّفات لا تليق بها، وقد تتسبّب لها ولأهلها والمحيطين بها ببالغ الأسى والحزن، مع ما يرافق ذلك من دروس حياتيّة بليغة، على رغم أنّها قد تأتي متأخّرة وبعد انقضاء الأمر. كما تصوّر حالة الوعي بالذات وبالآخر، وحالة تمرئي الرغبة وتجلّيها وتغوّلها وطرق إروائها.

مشاركة :