كيف يمكنك أن توجز في وصف عصرنا الحالي؟ أيناسبك أن يوصف بعصر «الطوفان الرقمي»، أم بعصر اللاحدود، عصر الـ«هنا» والـ«هناك» في الآن ذاته؟ أفُتنت ذات يوم بمخيال الأساطير القديمة، وهي تصف لك كيف سرق (بروميثيوس) النار من الآلهة لتقدمها للبشر؟ أنت في عصر آخر ترادفُ فيه «التكنولوجيا» تلك النار التي سرقها هذا المسكين الذي مُني بعذاب أبدي!هبَة (بروميثيوس) الجديدةلقد غيَّرت التكنولوجيا والرقمنة وجه العالم، وهذا أمر بات من المسلمات، حتى باتت «تلك التغيرات تباغتنا وتأخذنا على حين غرة، فتحطم تصورنا حول الطريقة التي يسير بها العالم من حولنا»، كما يؤكد لنا مؤلفو كتاب «الطوفان الرقمي»، وهم أصحاب تشبيه التكنولوجيا بالنار التي سرقها (بروميثيوس)، فـ«التكنولوجيا، مثلها مثل النار، لا يحكم عليها بأنها خير أو شر في حد ذاتها؛ لأن قيمتها تعتمد على كيفية استخدامنا لها، وما إن نبدأ في استخدام التكنولوجيا حتى يتغير المجتمع نفسه، ولا يعود كما كان أبدًا».إن ذلك التغيير الذي أحدثته التكنولوجيا يعود في جزء كبير منه إلى «تكنولوجيا المعلومات والاتصال»، تلك التي «تغيّر العالم بعمق وعلى نحو لا سبيل إلى الرجوع عنه لأكثر من نصف قرن من الزمان وحتى الآن، على نطاق هائل وبمعدل فائق السرعة» كما يخبرنا المفكر وخبير المعلوماتية (لوتشانو فلوريدي)، وإذا ما ذكرنا تكنولوجيا المعلومات والاتصال، فلا بد أن نقف عند سيد التغيير «الإنترنت».الفضاء الأوسع الذي خلقناهمنذ ظهوره، فتن (الإنترنت) جميع مستخدميه، ولكن بعيدًا عن هذه الفتنة الساذجة، استطاع الإنترنت أن يخلق فارقًا حياتيًا في شكل وصورة العالم الواقعي. ورغم وصفه بالفضاء الافتراضي، إلا أنه كان أقدر على تغيير الواقع من كل الأشكال الواقعية الأخرى، فمثلاً «تضفي شبكة الإنترنت طابعًا ديمقراطيًا على عملية التواصل، على الأقل لمن يستطيعون الاتصال بها، فقد زاد عدد الأشخاص الذين يستطيعون التحدث بعضهم مع بعض والاستماع بعضهم إلى بعض في جميع أنحاء العالم أكثر من أي وقت مضى»، كما يقول الفيلسوف (نايجل ووربيرتن). فكيف وقد بلغ عدد مستخدمي الإنترنت نصف تعداد سكان العالم؟فبالعودة إلى تقرير «مؤشر الإعلام الرقمي» للعام الماضي (2018)، سنجد أن هناك ارتفاعًا في نسبة استخدام الإنترنت في العديد من بلدان الوطن العربي، خاصة دول الخليج العربي، فنسبة المستخدمين بالنسبة لعدد السكان تصل إلى (99%) في الإمارات وقطر، وإلى (98%) في الكويت والبحرين، وإلى (91%) في السعودية، فيما تأتي عمان في المرتبة الأخيرة بنسبة (70%). وبذلك فإن دول الخليج تسهم بأكثر من (70%) من نسبة مستخدمي الإنترنت في الوطن العربي، وسنأتي على منعكس ذلك لاحقًا. بيد أنه لا بد من تبيان أن هذا الانتشار، عالميًا، خلق فضاءً يسميه الأكاديمي الهندي (برامود كيه نايار) بـ«الفضاء الإلكتروني» أو «فضاء التحكم الإلكتروني» مبينًا إن هذا الفضاء «هو تضخيم الفضاءات العامة القائمة، وتمدّد في عالم آخر من المجتمعات ومواقع الفعل السياسي، والفاعلية التي توجَد في المجال العام الواقعي»، فـ«بينما تشتمل البيئة المعيشة، أو الفضاء الاجتماعي على بنى وأدوات من قبيل المدارس والمنازل والمصانع والمستشفيات التي توفر المكان للعلاقات الاجتماعية، يتكون الفضاء الإلكتروني من أدوات صورية وسمعية ونصية تمكّن العلاقات الاجتماعية وتتوسَّطها». مخرجات هذا الفضاءإن أبرز ما يشغل هذا الفضاء هي المنصات على اختلافها، إذ تُعد عنصرًا فارقًا في تعريف الإنترنت، فقد يعرف شخص مسن الإنترنت بوصفه (واتس آب)، فيما قد يعرفه طفل بأنه (يوتيوب). وقد شهدت أغلب المنصات تطورًا في المحتوى العربي خلال السنوات الأخيرة، ومن أبرز هذه المنصات، وهي محور حديثنا، المنصات الإعلامية الثقافية، فمنذ بروزها شكلت هذه المنصات مساحة حرة من كل القيود المفروضة على وسائل الإعلام التقليدية، بل إن الباحث الإعلامي (تشارلي بيكيت) كتب موصفًا هذا التغيير: «تشهد الصحافة حاليًّا تغيرات جذرية، وكأنها تستقل عربة في قطار الملاهي الذي يمكن أن يكون مثيرًا ومبهجًا لكن في الوقت نفسه مرعبًا للغاية».لقد اتخذت هذه المنصات الإعلامية المستقلة أشكالاً متعددة، بعضها تخصصية، في الموسيقى، والعلوم، والأدب، والفكر، والفلسفة، والأخبار، وأخرى عامة، بوصفها منصات تتناول مختلف الموضوعات بأساليب مبتكرة، وقد نجحت في استقطاب الشباب الطامحين للتعبير عن أفكارهم وآرائهم وهواجسهم في شتى المواضيع، ما جعل هذه المساهمات القادمة من خلفيات معرفية وثقافة وتخصصاتية متعددة، تخلق غنى وتنوعًا في المحتوى.هذا الشغف دعا إلى بروز عدد من المنصات العربية، ومؤخرًا اختطفت عدد من المنصات الخليجية الضوء، وليس ذلك مستغربًا إذا ما عدنا إلى تقرير (مؤشر الإعلام الرقمي) وما أوضحناه من نسب أعلاه. ويذكر هذا التقرير أنه «قبل بضعة عقود، كان للمحتوى الجماهيري الشامل المنشور في الصحف المطبوعة والتلفزيون واللوحات الإعلانية الضخمة تأثير السحر على الجمهور. بينما في الوقت الحالي، تغيّر هذا النظام جذريًا، ويبدو أن وسائل الإعلام لم تعد قادرة على إحداث التأثير نفسه».ويؤكد ذلك ما ذهب إليه مؤلفا كتاب «مقدمة إلى بيئة الإعلام الجديد»، مبيّنان أن الإنترنت أوجد بيئة إعلامية جديدة تتحدى النخب السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية «من خلال توفير قنوات اتصال للمواطنين العاديين لتقديم معلومات عن الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والوصول إليها مباشرة، متجاوزين كليًا المتحكمين التقليديين والجدد في وسائل الإعلام»، فيما يقر مؤلفو كتاب «الطوفان الرقمي»، بذلك مبينين بأنه «لم يعد المتحدثون تحت رحمة أهواء أولئك الذين يسيطرون على مكبرات الصوت والمطابع. ما من أحد مجبر على الاستماع، لكن من السهل أن تضع الرسالة حيث يمكن للملايين سماعها».لكن هذه الرسالة محملة ولا بد، بكل ما في الواقع، فبالعودة للأكاديمي (نايار)، يتبيّن لنا أن «أشكال الثقافة الإلكترونية الشعبية وثقافات وسائل الإعلام الجديدة تتضاعف، وتصل إلى شرائح جديدة من السكان. وهي تحمل حمولاتها الأيديولوجية والسياسية. وفي كل حالة تظل هذه التشكيلات الثقافية الإلكترونية ذات صلة، مهما كانت عرضية، بالسياقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية في الحياة الواقعية».نماذج عربيةكما أسلفنا باتت المنصات في العالم العربي تتزايد يومًا بعد آخر، وهذا التزايد ظاهرة صحية بالطبع، لكنا سنحصر النماذج في ثلاث منصات، استطاعت أن تفرض حضورهما في الفضاء العربي، الأولى عربية وهي «رصيف 22»، والأخريين خليجيتين، هما «منشور»، و«ثمانية». وتتشارك هذه المنصات خاصية كونها تشاركية، أي أن صنع المحتوى غير مقتصر على أفراد معينين، بل هو مفتوح للجميع، وفق شروط، وبذلك «لم تعد الجماهير مستهلكين سلبيين، ولكن غالبًا ما يكونون مشاركين على نحو وثيق في تركيب الأداة الثقافية وسبكها وقصتها» كما يقول (نايار).«رصيف 22» هي واحدة من أبرز المنصات التي استطاعت أن تفرض نفسها في فضاء بالغ الاتساع، وتعرف المنصفة نفسها بأنها «منبر إعلامي بلسان مستقل يخاطب ملايين القراء باللغة العربية من خلال مقاربة مبتكرة للحياة اليومية في عالمنا»، وهذا يبعث على مقاربة تعريفها لنفسها بما يذهب إليه (نايار) من كون المنصات التدوينية تمثل «كتابة عن الحياة لا تكتمل أبدًا».تدعي «رصيف 22» بأن مبادئ الديمقراطية تشكل «عصب خطة التحريري الذي يشرف عليه فريق مستقل، ناقد ولكن بشكل بنّاء، له موقف من شؤون المنطقة، ولكن بعيد عن التجاذبات السياسية القائمة». وفي طرحها تتناول مختلف الموضوعات التي «تطال أسلوب الحياة، الفنون، الثقافة، الاستثمار، الصناعة، الاقتصاد، السياسة، العدالة، المساواة، السفر، التربية، وتقبّل الآخر».«منشور» التي تُعد واحدة من أكثر المنصات الخليجية المستقلة انتشارًا على المستوى العربي، تقدم نفسها بوصفها مساحة تشاركية للتحدث عما يجول في الأذهان، وما لا تتطرق له وسائل الإعلام، «سواء كانت فكرة جمعتك حولها نقاش مع أصدقائك، أو تجربة شخصية غيرت نظرتك إلى بعض الأمور، أو زاوية تناول لقضية لم يتطرق إليها أحد من قبل».ويمكن مقاربة هذه الدعوة بما يعبر عنه (نايار) من كون «المدونات في جوهرها شكل من أشكال الكتابة عن شؤون الحياة على الإنترنت. سير الحياة، والمقالات الشخصية هي أشكال تقليدية من إعلان المرء عن ذاته، وبناء شخصية يستهلكها العالم، وتقديم وجهٍ معين للعامة»، فبذلك، «لا يصبِح الآخر الذي يظهر لنا معلومًا لنا إلا على شاشاتنا. ما يمكِّننا من رؤية الاختلاف بيننا وبينه».«ثمانية» منصة سعودية أخذت مكانتها بفضل تعددية وسائل محتواها، بدءًا بإذاعتها (بودكاست: فنجان)، مرورًا بقناتها (ثمانية للأفلام الوثائقية)، وصولاً إلى موقعها المخصصة للمدونتها. وتعرف هذه المنصة نفسها بكونها «صحافة استقصائية جديدة». وبالعودة إلى (نايار) مجددًا نجده يقول: «يوفر فضاء الظهور عبر الوسائط، المسرح الذي تصنع فيه القرارات والأحكام. ويدل هذا على إمكانية ظهور مجتمع مدني جديد -أو مجتمع مدني افتراضي، ليصبح مرادفًا له- حيث يكون (الآخر) شخصًا يمكننا التعرف عليه، ونأمل أن نفهمه».هذا إلى جانب العديد من المنصات الشبابية المستقلة التي تتقفى أثر الإبداع والمغايرة، في التصميم، والأسلوب، والتقديم، لتحوز على أكبر قدرٍ من الجمهور الواسع على شبكة الإنترنت، وقد تكون هذه الولادات الجديدة للمنصات يومًا بعد آخر، سببًا في التساهل مع حرية الكلام في مختلف مناطق العالم، كما يقول (نايجل ووربيرتن)؛ وذلك «نتيجة لصعوبة إسكات هذا العدد الكبير من الأصوات التي لديها العديد من السبل للوصول لوسائل الإعلام السائدة (في المستقبل)، وليس نتيجة لأي قرار أخلاقي».إن هذا الظهور للمنصات أو لـ«صحافة الإنترنت» كما يسميها (بيكيت)، يطرح تحديًا جوهريًا أمام التنظيم الاقتصادي الذي تطبقه وسائل الإعلام التقليدية، بيد أن (بيكيت) على المستوى الفني، يرى بأن «الشكل الذي سيأخذه هذا التحدي وإلى أي مدى سيكون جوهريًّا بها لا يزال أمرًا في أيدينا تحديده، فالصحافة ليست مصدرًا ثابتًا مثل النّحاس الذي يعتمد على قدرتنا على استخراجه من الأرض، وهي يمكن أن تصير مدرَّة للأرباح من خلال إدارة الموارد الموجودة ببساطة. لكن هذا على المدى القصير في أفضل الأحوال»، بيد أن التحدي الجوهري، يكمن في كون «الاستثمار في التكنولوجيا الحديثة ومكاسب الكفاءة التي يجلبها معه لن يكون كافيًا للنجاح الاستراتيجي بعد السنوات القليلة المقبلة»، فما مصير الوسائل الإعلامية التقليدية، أهو الرضوخ لاشتراطات الواقع الجديد أم خلق واقع جديد خاص بها وباشتراطاتها هي؟
مشاركة :