ثقافة السلاح.. ثقافة الموت في أمريكا

  • 8/13/2019
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

تعود جرائم القتل الجماعية مرة أخرى لتتصدر العناوين الصحفية في الولايات المتحدة الأمريكية. في أعقاب كل جريمة يذهب ضحيتها الكثير من الناس الأبرياء تتكرر نفس المواقف والسلوكيات النمطية التي أصبحت مألوفة. بعد الصدمة الأولى نمر بفترة قصيرة من الحزن والحداد تتبعها فترة قصيرة أخرى نبحث فيها عن ذواتنا ونطرح فيها الكثير من الأسئلة ونقدم الكثير من الأرقام والبيانات التي تذكرنا بأن الكثير من الناس قد أزهقت أرواحهم جراء عمليات القتل الجماعية التي حدثت في الشهر الماضي أو في السنة الماضية أو على مدى العقد الماضي وهكذا دواليك. أما المحللون فتراهم يعلقون ويتحدثون عما يعتبرونه مألوفا أو غير مألوف في هذه الجريمة أو تلك كما أنهم يوجهون أصابع الاتهام إلى أولئك الذين نعتقد أنهم هم من حرضوا على العنف وتولوا تدبير تلك العمليات العنيفة. في كل مرة نخلص إلى مناقشة بعض الاقتراحات الرامية إلى معالجة هذه الأزمة – أي معضلة الأسلحة وجرائم القتل في الولايات المتحدة الأمريكية. إن هي إلا أسابيع قليلة وتعود الأمور إلى طبيعتها لنظل ننتظر بعد ذلك حتى تحدث مجزرة جديدة تزهق فيها أرواح الكثير من الأبرياء – وهي مجزرة ستحدث لا محالة في الحقيقة لأن أمريكا تشهد حدوث عملية قتل جماعية مرة واحدة على الأقل كل يوم – علما أن هذه السنة – 2019 – قد شهدت حتى الآن ما لا يقل عن 250 عملية قتل جماعية حتى الآن. تبدو الأرقام الاحصائية مرعبة حتى إذا لم نتحدث عن جرائم القتل الجماعية. ففي نهاية الأسبوع الماضي، على سبيل المثال، كان الأمريكيون يركزون على متابعة ما حدث في إلباسو ودايتون. في الأثناء قتل سبعة أشخاص في مدينة شيكاغو فيما جرح 46 آخرين في حوادث إطلاق نار معزولة. سعيا لمعالجة هذه المعضلة الأليمة تقدم الديمقراطيون بعدة اقتراحات لمراقبة الأسلحة مثل فرض حظر على الأسلحة الهجومية وتشديد شروط الترخيص لأولئك الذين يسعون لامتلاك الأسلحة الشخصية. لقد تصدى بعض الجمهوريين لأغلب التشريعات المقترحة في الماضي لكن يبدو أنهم أصبحوا يتقبلوا فكرة إصدار قانون يسمح بمصادرة الأسلحة من أولئك الأفراد المعروفين بتاريخهم العنيف. أما اليمينيون الأكثر إغراقا في الاعتبارات الإيديولوجية فهم يقترحون كحل لهذه المعضلة السماح بمزيد من الأسلحة في المدارس ودور السينما والطائرات ودور العبادة وغيرها من الأماكن الأخرى وهو موقف غريب. أعتقد أن مثل هذه الاقتراحات الرامية إلى مراقبة الأسلحة في الولايات المتحدة الأمريكية منطقية لكن أظل أعتبر أننا قد أغفلنا نقطة جوهرية في هذا الصدد. يمكن للكونجرس الأمريكي، بل يجب عليه، أن يفرض حظرا على الأسلحة الهجومية ويفرض قيودا عند الترخيص لأولئك الذين يريدون أن يمتلكوا أسلحة شخصية. لا يوجد أي سبب يبيح لأي شخص امتلاك سلاح مصنوع أساسا لاستخدامه في الحروب. إذا كان يجب على الانسان أن يحصل أولا على رخصة قيادة لسياقة سيارة فلماذا تسمح القوانين الأمريكية لأي كان بأن يشتري سلاحا دون أن يكون له ترخيص أو دون التثبت مليا في ماضيه؟ إن مثل الاقتراحات، على جديتها، لن تكون كافية كي تحل هذه المشكلة، ولا تلك الاقتراحات الغريبة التي يطرحها المدافعون عن الحق في السلاح، والداعية إلى تسليح أعوان الحراسة في المدارس وبقية الأماكن العامة والسماح للمدرسين في رياض الأطفال بحمل أسلحة خفيفة أو السماح للركاب المسافرين على متن الطائرات بحمل أسلحتهم. فمثل هذه الاقتراحات الغريبة إنما تكرس التدمير المتبادل على متن الطائرات وفي دور السينما ودور العبادة وغيرها من الأماكن والفضاءات الأخرى التي تعتبر مسرحا لمثل هذه الجرائم. لا تنحصر المشكلة التي نواجهها اليوم فقط في طبيعة اسلحتنا المتطورة (لمصلحتنا في حقيقة الأمر) أو أننا لا نملك ما يكفي من هذه الأسلحة المتطورة. إن المشكلة التي نواجهها اليوم أبسط وأعمق في نفس الوقت. إن مشكلتنا تنبع من «ثقافة السلاح» في المجتمع الأمريكي. هذه هي الحقيقة. لقد نشأ أبناء الجيل الذي أنتمي إليه وهم يلعبون لعبة «رعاة البقر والهنود» أو لعبة «رجال الشرطة واللصوص». إذا لم نستخدم الأسلحة الحقيقية أو الأسلحة في شكل ألعاب للأطفال إننا نكتفي بالضغط على الزناد عبر الإشارة بالإصبع ونطلق النار وكأننا نقول بذلك فعليا ونتخيل إننا قد أصبنا الهدف في مقتل. كل ذلك بحركة من أصابع اليد. أما في الوقت الراهن فإن الأطفال لا يمارسون مثل هذه الألعاب. فقد أصبحت الأسلحة الافتراضية متوافرة لهم في ألعاب الفيديو على شبكة الإنترنت كما أن الأسلحة أصبحت تسوق لهم في إطار القصص الخيالية التي تتحدث عن الغزاة القادمين من الفضاء والذين يهددون أبناء البشر أو أبطال المستقبل الخياليين والفائقي القدرة والذين يمتلكون أسلحة فتاكة. إنهم يعمدون اليوم أيضا، إن لزم الأمر، إلى استخدام العصي أو الأصابع التي تتحول بقدرة قادر إلى أسلحة من كل الأنواع والأشكال وذات قدرة تدميرية تفوق الخيال. لنتحدث عن هذه المعضلة بكل صراحة. إننا في الولايات المتحدة الأمريكية نتغذى من ثقافة العنف والسلاح من المهد إلى اللحد، سواء من خلال أفلام الكرتون أو أفلام رعاة البقر أو أفلام الشرطة أو ألعاب الفيديو، دون أن ننسى فيلم «رصاص ودماء» للمخرج تارانتينو، وغير ذلك من الأمور التي رسخت في «عمق ثقافتنا» الأسلحة والعنف والقتل ومشاهد الدم. خلاصة الأمر، فقد أصبحت الأسلحة جزءا لا يتجزأ منا نحن كشعب وكأمة. يتضمن فيلم «جنون السلاح»، الذي يصنف ضمن السينما السوداء، مشهدا كلاسيكيا ظل راسخا في الأذهان، يظهر فيه بطل الفيلم بارت، كطفل صغير وهو يحدق طويلا في واجهة أحد المحلات واتضح أنه كان يتمعن في أحد المسدسات القوية. لم يستطع الطفل الغر أن يقاوم الإغراء فهشم النافذة وحاول أن يسرق السلاح الذي أثار إعجابه قبل أن يتم القبض عليه مباشرة. في المشهد الموالي يظهر بارت وهو يمثل أمام القاضي ويحاول أن يفسر له مدى هوسه بالأسلحة قائلا لهيئة المحكمة: «أشعر براحة لا تضاهى عندما أطلق النار. ينتابني شعور داخلي عظيم وأحس أنني قد أصبحت شخصا مهما». إن هوس بارت في هذا الفيلم الكلاسيكي بالأسلحة مرضي وهو قد تسبب في هلاكه في نهاية المطاف. غداة المجزرة التي شهدتها الولايات المتحدة الأمريكية في سنة 2013 والتي أودت بحياة ما لا يقل عن عشرين طفلا صغيرا في مدرسة ساندي هوك التحضيرية للأطفال أصدر الرئيس باراك أوباما أمرا تنفيذيا بحظر الأسلحة الهجومية والحد من مبيعات الأسلحة وهو ما أثار استياء المولعين بالأسلحة والذين اصطفوا لشراء الأسلحة بل معتقدين بأن «أوباما سيأخذ منهم كل أسلحتهم». عندها فكرت في الطفل الغض بارت، بطل فيلم «جنون السلاح». كنت أشاهد وجوهم المتجهمة وهم يداعبون أسلحتهم أو يوجهونها إلى أهدافها الوهمية وفكرت مرة أخرى ببطل الفيلم الكلاسيكي بارت، وأنا أدرك في قرارة نفسي أنه لا خير يرجى من مثل هذا الهوس بالأسلحة. عندما وقع الرئيس أوباما على أوامره التنفيذية قال أوباما أنه منذ تلك المجزرة التي هزت مدرسة ساندي هوك التحضيرية قتل أكثر من 900 أمريكي آخرين رميا بالرصاص. لم يصدم أحد بتلك الأرقام المرعبة لأن الجميع على علم بها وهي معلومة للقاصي والداني. في كل شهر يقتل ما بين 900 و1000 كمعدل شهري على مدى الأعوام العشرة الماضية، أي ما يناهز عشرة آلاف قتيل سنويا، وهو ما يعني أكثر من 100 ألف قتيل بسبب الأسلحة النارية خلال الأعوام العشرة الماضية. إذا ما أضفنا حوادث الانتحار وحالات الوفيات العرضية بالسلاح فإن العدد يرتفع إلى أكثر من 33 ألف قتيل سنويا، وهو ما يجعل من الأسلحة أحد أهم أسباب القتل التي يتعرض لها الأمريكيون بلا منازع. هناك في الوقت الحالي أكثر من 350 مليون قطعة سلاح قيد الاستخدام في الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما يكفي لتسليح كل مواطن أمريكي، علما أن قرابة نصف العائلات الأمريكية تمتلك أسلحة خاصة بها. تظهر الأرقام الإحصائية أن هذه العائلات التي تمتلك أسلحة معرضة أكثر من تلك التي لا تمتلك أسلحة للعنف. تظهر الأرقام الاحصائية أن أكثر من ثلثي جرائم القتل ترتكب باستخدام الأسلحة – علما أن الأعوام الماضية لم تشهد أي نقاشات جدية. نحن نعرف كل هذه الحقائق المرة، التي ترتبط بالهوس المرضي بامتلاك الأسلحة بقدر ارتباطها بلا شك بأي محاولة لفرض قيود على امتلاك مثل هذه الأسلحة التي تستخدم في إزهاق الكثير من الأرواح. فلوبي الأسلحة القوي والجمعية القومية الأمريكية لملاك الأسلحة قد أفشلوا مرارا وتكرارا أي جهود ترمي إلى وضع بعض القيود على استخدام الأسلحة، حتى وإن كانت هذه القيود متواضعة. ظلت الجمعية القومية الأمريكية لملاك الأسلحة على مدى الأعوام الماضية تعمل على إفشال اقتراح مطروح في كومنولث فرجينيا يفرض قيودا على السكان الراغبين في شراء سلاح، بمعدل سلاح واحد في كل شهر. ينتهج المنتمون لهذا اللوبي طريقة سهلة ومباشرة, فهم لا يسمحون بأي نقاش أو حلول وسطى أو تنازلات كما أنهم لا يقبلون بأي علامة ضعف أو تردد ويحتمون بما ينص عليه الدستور الأمريكي من حقوق، معتبرين أن الأمر يتعلق بمستقبل الحريات في الولايات المتحدة الأمريكية. يعمل هؤلاء أيضا على تأجيج مشاعر المنتمين لهذا اللوبي ويعتبرون أن مجرد الحديث عن فرض قيود على استخدام الأسلحة هو من قبيل المحرمات، بما في ذلك أي نقاشات تتطرق إلى هذا الموضوع. في نهاية الأمر، نجد أنفسنا غارقين في «ثقافة السلاح»، وسط انتشار كبير للأسلحة في المجتمع الأمريكي، حيث إن البعض يتوهمون بأنهم وطنيون حقيقيون يدافعون عن الحرية ضد الاستبداد. رغم التهديدات فلا بد من تصعيد ضغوط الرأي العام للمطالبة بوضع قوانين جديدة تحظر الأسلحة الهجومية مع التثبت من خلفية وتاريخ كل من يرغب في امتلاك الأسلحة. ما لم نجر نقاشات وطنية جدية تركز على قصة حبنا المرضية مع الأسلحة ونطهر أنفسنا من هذا الهوس المرضي فإننا سنظل نتغافل عن هذه المسألة الحساسة التي تظل تقتلنا كل يوم. ‭{‬ رئيس المعهد العربي الأمريكي

مشاركة :