رجل فوق غيمة المستحيل (4/‏‏3)

  • 8/15/2019
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

لم يكن يعلم لينين رجل الثورة والدولة ورجل الكريملين الحالم، مثل غيره من رجالات التاريخ، ان صلح بريست سيصبح مسمار نعشه، وأن خناجر بروتوس في ليل روما كانت تتراقص كالشيطان في ليل موسكو الصيفي، وأن من سيحاول قتله واغتياله هم رفاق من تيار اليسار الثوري. عاشت الثورة البلشفية بين مطرقة الوضع العالمي الخارجي وسندان التيارات والمجموعات المعادية والمعارضة للحكومة الفتية التي يقودها لينين، وكان يجب قبل كل شيء إنهاء الحرب، فالجنود متعبون ويهفون للعودة لديارهم من الجبهات، فيما الحكومات البرجوازية في بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة ترفض مباحثات الصلح مع المانيا بالرغم من نداءات الحكومة البلشفية، ولكن لينين وجد أن على الحكومة عقد الصلح مع المانيا بمعزل عن الحكومات الثلاث، حيث لا مخرج الا هذا المخرج. وافق الامبرياليون الالمان على مباحثات الصلح ولكنهم تقدموا بشروط مجحفة، إذ طلبوا ضم جزء هام من الاراضي الروسية لهم، فانبثق سؤال هام عندها امام الحكومة الفتية والتي لم تستكمل ثورتها عاما واحدا، ما العمل؟ هل نوافق على شروط الصلح الفادحة ام نواصل الحرب؟ فاقترح لينين توقيع الصلح انطلاقا من رؤية لينين ان البلد منهك ومواصلة الحرب من شأنه ضياع وهلاك السلطة الفتية، ولابد من التضحية بقبول تلك الشروط في سبيل انقاذ الجمهورية الفتية. وإنهاء الحرب والحصول على فترة سلمية قصيرة لاستعادة الانفاس والحفاظ على مكتسبات الثورة البروليتارية، وتمكين العمال والفلاحون من الاستراحة من اهوال الحرب، وبعث الاقتصاد الوطني، وبناء جيش جديد قادر على حماية منجزات الثورة. وبقدر ما كان الوضع الخارجي معقدا وخانقا عارضت القوى الداخلية عقد الصلح مع المانيا خاصة فلول البرجوازية التي تم اسقاطها، وجماعات الاشتراكيين الثوريين والمناشفة وتروتسكي، ومن يسمون انفسهم حينذاك «الشيوعيين اليساريين»، أي بوخارين وبوبنوف ولوموف واوسينسكي وغيرهم، وطالب الشيوعيون اليساريون بوقف مباحثات الصلح ودعوا الى «الحرب الثورية» ضد المانيا، مع ان القوى اللازمة لتلك الدعوة غير متوفرة، من هنا نعتهم ووصفهم لينين بكلمات «الغريب والفظيع والبشع». نتيجة التطرف المتناهي. نلمس بعد مرور ما يقرب من عام ونيف على الثورة، كان داخل الحزب وخارجه خط مناهض الى لينين من البرجوازية والبرجوازية الصغيرة وجزء من البلاشفة المتقلقلين في الحزب. بحثت مسألة الصلح مرات عديدة في اجتماعات اللجنة المركزية، وكان الحوار حولها حادا للغاية. كان الوضع في الحزب صعبا جدا وعاش لينين يتألم كثيرا لكل ذلك، فهاجم في الصحف «الشيوعيين اليساريين» وتروتسكي وشهر وسخر بخطر «الجملة الثورية»، ووصف مداخلات الشيوعيين الثوريين بأنها «مغامرة»، ووصف سلوكهم بأنه «غريب وفظيع» (عنوان مقالته)، عندما وصل بهم الامر الى حد القول: «ان بالوسع التضحية بالسلطة السوفيتية لمصلحة الثورة العالمية» (أطروحة تروتسكي حول الثورة الدائمة او المستمرة) فيما أكد لينين ضرورة وأهمية الحفاظ على الجمهورية الفتية ودعمها؛ فهي افضل تأييد ودعم لحركة التحرر العالمية. وقد عارض في البدء اكثرية اعضاء اللجنة المركزية طروحات لينين، ولكن اقتراحه بعقد الصلح حسب الشروط التي تقدمت بها المانيا حظي بالقبول. اما تروتسكي الذي عين رئيسا للوفد السوفيتي الى المفاوضات مع ممثلي المانيا؛ فقد خالف تعليمات لينين ولجنة الحزب المركزية (وهذا بحد ذاته يستوقفنا كثيرا اختيار تروتسكي مفاوضا رغم علم لينين بطبيعته ومزاجه وتطرفه واستنفاره منه دوما داخل الحزب !)، فلم يوقع تروتسكي على شروط المانيا واحبط المفاوضات فكان مسلك تروتسكي و«الشيوعيين اليساريين» يصب في خدمة الامبرياليين الالمان فاستغلوا ذلك، وانتقل جيشهم الى الهجوم في فبراير 1918، وحاول الالمان خنق السلطة السوفيتية واستعمار روسيا. بذلك التهور الكبير من تروتسكي وانصاره خيم خطر رهيب على البلاد، فاستنفر لينين على وجه السرعة بتنظيم الحزب للدفاع فوجه في 21 شباط نداء لاهبا يقول: «الوطن الاشتراكي في خطر». بعد ذلك النداء وذكرى عام يقترب على الثورة، شهدت روسيا مجددا نهوضا ثوريا قويا بين جماهير الكادحين، ونتيجة لذلك النداء تطوع عشرات الآلاف من العمال والفلاحين للدفاع عن الوطن، وتشكلت في كل مكان فصائل جيش جديد للشعب الثوري، قاومت العدو المهاجم مقاومة بطولية وردته على اعقابه كما حدث عند نارفا وبسكوف. وساهمت اجواء عقد الصلح في المدن الروسية والاصقاع البعيدة، بضرورة الاسراع بعقد المؤتمر السابع للحزب. في هذا الفضاء المتوتر في روسيا وخضم صراع شديد ستشهد الساحة مزيدا من الاغتيالات السياسية بين المتصارعين على السلطة.

مشاركة :