رجل يحلق فوق غيمة المستحيل (4/‏‏4)

  • 8/19/2019
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

في الوقت الذي كانت الثورة البلشفية تطارد بعد عام من قيامها جيوب الثورة المضادة، وتسعى لبناء جيش وحزب وبرنامج جديد، وتسوية مسألة عقد الصلح، كانت المجموعات اليسارية الثورية والجماعات التروتسكية وغيرها، تجد في عقد الصلح خيانة عظمى للثورة، ولن يكون لدى تلك الجماعات الا نهج المؤامرة والتصفية لرموز قادة البلاشفة وعلى رأسهم لينين، فقد نعتت فانيا كابلان لينين بأنه «خائن الثورة». ففي المنعطفات التاريخية الحرجة تسقط الشخصيات والزعماء ميتة مضرجة بدمها، فالاتجاهات المتطرفة لا تجد الا في القتل والاغتيال خيارا وحيدا لمشروعها، لهذا اختار الاسلاميون السادات والتيار اليميني في اسرائيل رابين كما اختارت العناصر الهندوسية غاندي، جميعهم رفضوا فكرة الصلح مع الاخر، وهناك من الدروس والوقائع الكثيرة في إضبارة التاريخ، يشكل لينين واحدا من تلك الحقائق. ففي 21 يونيو من عام 1918 اغتال الاشتراكيين الثوريين فولودارسكي كواحد من قادة البلاشفة، اسبوعان بعد ذلك سيدق جرس لنهاية البلاشفة باستدعاء تدخل عسكري الماني، حيث عاشت موسكو اجواء الرعب والخوف، فقد اغتالت المجموعات نفسها في 6 يوليو في موسكو الوزير المفوض الامبراطوري الالماني الكونت «ميرباخ» في وقت حرج من التفاوض والصلح مع الألمان، لعلها تلك الخطوات من الاشتراكيين الثوريين تنسف كل المحاولات الناجحة لتهدئة الجانب الالماني، والالتفات الى اوضاع اعداء الثورة في الداخل. لقد تم وضع خطة اغتيال لينين. وفي 30 أغسطس 1918، اطلقت الاشتراكية الثورية كابلان من مسدسها وعن قرب ثلاث رصاصات مسمومة، فأصابته بجراح بالغة ونقل بجراحه إلى شقته في الكريملين، وتناوب الأطباء ليل نهار لمتابعة وضعه الحرج وقد تهدده خطر الموت، وستكون تلك الرصاصات لاحقا سببا في إصابته بجلطات دماغية، فقد اخفق الاطباء في اخراج الرصاصة الثالثة. عاش زعيم الثورة في حالة شد وجذب من الناحية الصحية، فيما هو في قلب العاصفة يقود مشروع الثورة - غير المنجز - وهو في مرحلة جديدة وصعبة للغاية من مشروع قيادة الدولة والبناء والتغيير. تم إعدام كابلان بعد أربعة أيام من المحاكمة، متشبثة في التحقيقات بأنها لوحدها قامت بذلك الاغتيال بعد أن اعتقلت حكومة البلاشفة رفاقها والجماعات الثورية، وبأن لينين وحزبه خانوا الثورة. تلك الفتاة الثورية التي جاءت من سجون سبيريا في عهد القيصرية إثر اتهامات سابقة بالاغتيال. تعود فانيا كابلان مرة اخرى لدور مماثل من التطرف، دون ان نجد أن هناك مساحة من الاختلاف لدى المتطرفين، حين يرون في خصومهم مجرد خونة. هكذا وضعت كابلان وجماعتها لينين ورجالات القيصر على نفس السياق، فكلهم سواء في قاموسهم السياسي. مات لينين عن عمر يناهز الرابعة والخمسين وكان في قمة العطاء، ولو عاش عشرين سنة اخرى، لربما كان مسار الحزب والدولة والنظرية مختلفا عن مرحلة ستالين، فقد سارعت في اختطافه رصاصات كابلان المسمومة. هذه المرحلة من مرض لينين وتقلباته الصحية من اغسطس1918 حتى وفاته في 21 يناير 1924 بسبب نزيف في الدماغ. من الضروري التمعن في طبيعة ما كتبه من موضوعات سياسية وفكرية وتعليمات ووصايا حزبية بصدد اسماء وشخصيات في الحزب، يرى انها من الضروري عزلها وتحجيم صلاحياتها، لما تشكله من خطورة على وحدة الحزب، حيث سنتوقف على مدى القلق الذي كان يعيشه لينين بعد صيف عام 1918 لمستقبل الحزب، فهناك من القضايا الاساسية في الحياة الداخلية للحزب، والتي تم طمسها وإخفاء معالمها وسلبياتها من قبل التكتلات المضادة في الحزب بكافة انواعها في تلك الفترة من حياة لينين في سنواته الخمس الاخيرة. وقد تفجرت بشكل حاد وواضح وعميق بين تيار تروتسكي وستالين من الفترة بين عامي 1924 لغاية 1939، (دون ان تتوقف فرقة الموت الستالينية لملاحقة تروتسكي لاغتياله في المكسيك عام 1940)، فقد ساهمت الحرب العالمية الثانية في وحدة المختلفين، والتفاف الشعب السوفيتي لمصالح الدفاع عن الوطن الام الوطن الاشتراكي. ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية والهدوء السلمي، طفت على السطح مرة أخرى، كل تلك الخلافات الداخلية من جديد منذ 1945 -1956، فخلال عقد كامل انتفخت كل الامراض الستالينية التكتلية والصدامات الداخلية والتصفيات الحزبية، حتى لحظة المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي، والذي كان بمثابة مسمار نعش ستالين التاريخي، وهي المرحلة النقدية الصارمة لممارسات ستالين والمعروفة بالمرحلة «بالخرتشوفية» فقد تمت اعادة الاعتبار لكل ضحايا ستالين واخطائه وتفرده وغطرسته، وتم سحب قداسة جثمانه المحنط كما هو مع قبر وجثمان لينين، واكتفوا بمجرد نصف تمثال على قبره عند الجدار الخارجي للكريملين. مات ستالين بكل مجده وتاريخه وهفواته وتسلطه الحزبي، ولكن «الظاهرة الستالينية» ظلت في ذهن واعماق الحرس القديم من الشيوعيين في كافة انحاء العالم، فهي جزء لا يتجزأ من مرحلتهم وحلمهم النوستالجي ليوتوبيا العدالة الاجتماعية، في عالم الإنسانية كلها، الخالية من استغلال الإنسان للإنسان. سنجد الظاهرة الستالينية متفشية بقوة حتى بعد الاختفاء الكامل لامبراطورية الاتحاد السوفييتي كأول بلد للنظام الاشتراكي العالمي. وبسقوط النموذج ظلت الايديولوجية تقاوم بين نهجين، نهج الدوغماتية ونهج التجديد وضرورة اعادة قراءة التاريخ والتجربة المنهارة بروح نقدية خلاقة.

مشاركة :