نستكمل الحلقات الأربع وبعنوان مختلف عن الحلقات الثلاث التي سبق وإن نشرت في الأيام بعنوان «مئوية ثورة أكتوبر الروسية»، وتحديدًا التطرق لمرحلة محددة وحساسة منذ عام 1917 لغاية 1924 سنة وفاة لينين. تلك السنوات كانت مليئة بالصراعات الحزبية الداخلية قي سلطة فتية بلا خبرات في كيفية ادارة دولة شاسعة الاطراف وصراع متلازم للثورة مع الثورة المضادة. قرر لينين في تلك الظروف الصعبة الذهاب الى سمولني، وفي ساعة متأخرة من ليل 24 اكتوبر1917 وصل الى سمولني معرضًا حياته للخطر، مارًا بشوارع بتروغراد الخالية من الناس فيما كانت تجوب دوريات من القوزاق واليونكر؛ ليترأس مباشرة قيادة الانتفاضة. (مفردة دوريات القوزاق هنا مرتبة عسكرية ذات امتيازات في روسيا القيصرية، كان الحكم المطلق يستخدمها لمكافحة الحركة الثورية). ومن سمولني ليلاً انطلقت اوامر لينين الى جميع المحال، ولم يأتِ صباح 25 اكتوبر (7 نوفمبر بالتقويم الروسي القديم) إلا وكانت محطة التليفون ومبنى البرق والمحطة اللاسلكية وجسور نهر نيفا ومحطات السكة الحديدية وأهم الدوائر في العاصمة (بتروغراد) محتلة من العمال والجنود والبحارة الثوريين. نلاحظ في الانطلاقة الاولى لم يكن هناك دور للحليف الطبقي الفلاحي. وقد أشار بعض المؤلفين عن دور وقيادة لينين والحزب ونضال العمال ورجال الحرس الأحمر والجنود والبحارة المتفاني، فبفضلهم تأمن النجاح للحدث الأعظم في التاريخ العالمي ألا وهو إسقاط حكم الاقطاعيين والرأسماليين في روسيا. في هذه اللحظة العصيبة أصدرت اللجنة الثورية العسكرية نداء صاغه لينين «إلى مواطني روسيا» يخبرهم أن الحكومة المؤقتة تم اسقاطها وأن السلطة انتقلت الى السوفيت. وظهرًا افتتحت الجلسة التاريخية لسوفيت بتروغراد (مشهد الثورة محصورًا في المدينة وفي مواقع محددة وسلطات محدودة جغرافيا في رقعة روسيا الشاسعة)، وفي ذلك الاجتماع سيخرج لينين للعلن في القاعة، ويلقي خطابًا حول انتصار الثورة الاشتراكية وعن مهمات السلطة السوفيتية، معربًا عن يقينه بأن الاشتراكية في روسيا ستنتصر. كان لينين لحظتها مفرط التفاؤل وبجناح نسر يحلق فوق غيمة المستحيل، كان يرى التاريخ في قبضة يديه وأن روسيا تعيد تشكيل العالم كله، حيث قال: «منذ الآن يبدأ عهد جديد في تاريخ روسيا، وعلى هذه الثورة الروسية الثالثة أن تؤدي في آخر المطاف الى انتصار الاشتراكية». وفي ليلة 25 الى 26 اكتوبر اصدر لينين تعليماته بالاستيلاء فورًا على القصر الشتوي، الذي كان مقرًّا لوزراء الحكومة المؤقتة. وكانت الطلقة التاريخية من مدافع الطراد (افرورا) إشارة ببدء الهجوم على القصر الشتوي فاقتحمت الوحدات الثورية القصر كآخر معقل للحكومة البرجوازية، فكتب المؤرخون الروس ثم السوفيت عن ان انتصار ثورة اكتوبر هي انتصار اللينينية. في هذه الفترة من «الهرج السياسي وفوضاها» والتجاذب سيعتقل البلاشفة المناشفة والمناهضين لهم مثلما فعل المناشفة مع البلاشفة إبان الشهور الثمانية من الحكومة الموقتة، غير إن لينين وحزبه الذي وفّر إمكانية نقله وإخفائه اخفق في القدرة على حمايته من رصاص الاغتيال صيف عام 1918، فالتسيب الأمني في تلك الاجتماعات الجماهيرية أسهم في اصطياد لينين بسهولة في لحظة تاريخية مهمة. ولم يكن طريق الثورة مفروشًا بالورد فيما المهمات لم تستكمل وتنجز والنقاشات والاختلافات مستمرة بين أعضاء الحزب، فقد زاد في تعقيد الأمور أن كامنييف وزينوفييف وريكوف وأنصارهم وقفوا ضد خطة الحزب، وأيّدوا مطلب المناشفة والاشتراكيين الثوريين بإنشاء حكومة من مختلف الأحزاب، ولكن الخط اللينيني المتشدد وصف أعمالهم «بأنها مخالفة صارخة للانضباط الحزبي». وبتلك الاتهامات والخلافات انسحبوا من اللجنة المركزية وأعلن ريكوف وزينوفييف ونوغين انسحابهم من الحكومة، التي كانوا أعضاء فيها. فشهر بهم لينين في رسالة حادة متهمًا إياهم بالفارين من المعركة وسمّاهم «بكاسري الثورة». هنا لينين يستعيض عبارته وينتحلها من عبارة كاسري الاضراب في النضالات والاضرابات العمالية. وأطلقت عليهم نعوت الاستسلاميين والخونة واستعيض عنهم فورا باناس اخرين اقلّ كفاءة. بات الموقف اليومي للثورة في إدارة شؤون الدولة الى لينين أمرًا عسيرًا، فحاول كملهم للثورة ان يخرج من عقباتها بحماس داخلي كبير، كما لم تكن هناك تجربة سابقة للتجربة الاشتراكية في التربة الروسية للاستلهام منها والاسترشاد بها، وكان يردد على العمال والحزب «إن بناء الاشتراكية لا تشاد بأوامر من فوق» وكان يعتبر إبداعَ الجماهير الحي اهم ما في بناء الاشتراكية والشيء الرئيسي فيه. ولكن الواقع يفسد على لينين حماسته المطلقه وتعبيراته المثالية، فقد جاء إليه عمال ارسلوا للعمل في احدى مفوضيات الشعب (الوزارات) وبدعوى أن الأمور تسير سيرًا سيئًا عندهم، ورجوه أن يأذن لهم بالعودة الى المصنع، فأجابهم ونسى أنه من انتلجنسيا استثنائية: «أنا أيضًا لم أدرِ شؤون الدولة من قبل قط، ولكن الحزب والشعب عهدا الى بهذا العمل وعليّ أن أبرر ثقتهما بي «وأنصحكم بأن تفعلوا مثلي». وبرحيل هذا النموذج والكاريزما سيترك لينين فراغًا كبيرًا لم ينجح الحزب ولا ستالين وحلقته «التكتلية» بإخفاء أزماتهم الحزبية العميقة التي حملوها معهم لعقود طويلة، والتي قادت فيما بعد للتصفيات الجسدية والسجون طوال الحقبة الستالينية السوداء.
مشاركة :