مسرح القسوة.. قوانين الصراع تحكم الخشبة

  • 8/15/2019
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

القاهرة:الخليج يرتبط اسم «أرتور أداموف» (1908 - 1970) بحركة مسرح الطليعة التي ظهرت في باريس عقب الحرب العالمية الثانية، واجتذبت أنظار العالم، وفرضت نفسها، رغم مقاومة النقاد المخضرمين لها، واستنكار الجمهور الذي صاغت ذوقه من قبل تقاليد من احترفوا كتابة المسرحيات الترفيهية، ويجاور اسم «أداموف» أسماء مثل صمويل بيكيت، وأوجين يونسكو، وجان جينيه، إلى آخر تلك القائمة التي أشتهر أصحابها بأعمال مسرحية جريئة.ينتمي أداموف إلى تلك الطليعة، ولو أنه تطور تطوراً مغايراً لاتجاه وثباته الأولى، وانثنى في سنواته الأخيرة نحو الواقعية، فهو ينتمي تاريخياً إلى الطليعة، ويعتبر من أبطال الكفاح في سبيل توسيع آفاق المادة المسرحية، وتطويع هذا الفن العريق للتعبير عن معنويات الإنسانية الراهنة، ما أدى إلى تجديد العمل المسرحي مضموناً، وشكلاً. يتميز أداموف عن رفاقه بشدة قلقه، فهو لا يكف عن نقد نفسه، وعن البحث والدرس والاستقصاء، ليتعقب الحقيقة أينما بدت له آثارها، إنه لا يحرص على الوقوف، حيث أصاب النجاح والشهرة، وإنما يريد أن يتقدم، وأن يصدق نفسه دائماً، مخضعاً جميع ملكاته لخدمة ما يتكشف له من المبادئ، ولو دفعه ذلك إلى أن يدير ظهره لبعض رفاق الكفاح السابق، وإلى أن يضحي بما جلب له النجاح والشهرة.ولد أداموف في روسيا في 23 أغسطس/ آب سنة 1908 وكانت أسرته من أثرياء المشتغلين باستخراج البترول، وتجارته، غير أن جدته لأمه كانت أديبة معروفة، كتبت بالأرمينية مسرحيات مثلت في روسيا السوفيتية، التي بقيت بها حتى بعد نشوب الثورة الروسية، ولم ينزح أداموف عن روسيا لأسباب سياسية، بل رحل مع والده سنة 1914 إلى ألمانيا فراراً من وباء الكوليرا الذي تفشى في روسيا آنذاك، وفي ألمانيا فوجئوا بإعلان الحرب العالمية، فغادروها إلى سويسرا، وأقاموا في جنيف، ليتلقى الصبي أداموف ثقافة فرنسية جيدة.ولما بلغ السادسة عشرة ذهب إلى باريس ليكمل دراسته، كان ذلك عام 1924 وحمّى السيريالية تسري في العالم، لتنتقل عدواها إليه، فيكتب أشعاراً ترحب بها وتنشرها مجلة «كراسات الجنوب»، وكانت بدعة الكتابة الآلية هي السائدة، لكن سرعان ما أدرك أداموف أنها لا تؤدي إلى أي هدف، فهجر الشعر، وانصرف عن الكتابة، لكنه عاد إليها سنة 1936 ليكتب «الاعتراف» الذي ظل مخطوطاً طوال سنوات الحرب، حيث اعتقلته حكومة فيشي، ولم يتمكن من نشره إلا سنة 1946.برز اسم «أداموف» مؤلفاً مسرحياً سنة 1950 إذ عرضت له باريس في وقت واحد مسرحيتين هما «الاجتياح»، و«المناورة الكبرى والمناورة الصغرى»، ويستأثر فنه باهتمام بعض النقاد والكتاب، منهم أندريه جيد، وفي الأعوام الثلاثة التالية ثبتت أقدام أداموف وارتفع نجمه في سماء المسرح، ومضى يقدم أكثر من مسرحية في الموسم، ومنها «الأستاذ تاران - اتجاه السير - الجميع ضد الجميع - كما كنا»، وفي هذه المسرحيات يتجرد المكان من كل تخصيص، ويتجرد الناس من كل الملامح الشخصية الفردية المميزة، ويتجرد الحوار من كل إمكانات التفاهم بين المتخاطبين، جو من العزلة الموحشة، والانطواء العقيم والتنافر، تتحول فيه حياة الإنسان الجماعية إلى تراجيديا، تحت وطأة الإرهاب الخانق، فلكي يدفعنا أداموف إلى استنكار أوضاع الواقع الجائرة، عمد إلى تفريغ هذا الواقع من كل ما يشتمل عليه، بحيث يصبح خواء تخضع فيه العناصر المتصارعة لشريعة الصراع وحدها، ولذا أطلق بعض النقاد على مسرحه اسم «مسرح القسوة».إنه مسرح ذهني يستخدم المواقف الرمزية، على طريقة كافكا التي تتجاوز المواقف فيها أبعاد الواقع المادية، لقد برع أداموف في صياغة تلك المواقف التي تترجم الخوف والوحدة، ومن هنا كان اهتمامه بالتنبيه في صلب مسرحياته إلى أدق الحركات والسكنات التي ينبغي أن يؤديها الممثلون في كل لحظة، وإلى التفاصيل الخاصة بالمؤثرات الصوتية والضوئية، فالإخراج في نظره جزء لا يتجزأ من النص.ويستكشف أداموف مسرح الكاتب السويدي سترندبرج فيعجب بتعمقه في أسرار التحليل النفسي، ويؤلف عنه كتاباً سنة 1955 غير أنه سرعان ما يتحول إلى مسرح بريخت، فيكتب مسرحيات مثل: «البنج بونج - باولو باولي» وكان يسعى مثل بريخت إلى تقديم مشاهد سلبية رامياًً إلى إثارة غضب المشاهدين، واستنكارهم لكل الأوضاع المقلوبة، التي يفضح المسؤولين عنها، وهو لذلك يغير أسلوبه، ويقترب بأشخاصه وأحداثه شيئاً فشيئاً من الواقع والتاريخ، متخذاً من كل موقف فردي خاص صدى لموقف إنساني عام.ويضطر «أداموف» إلى الانشقاق على بريخت، ويعترف بأن قراءته لرواية فلوبير «التربية العاطفية» هي التي شفته من بريخت، وترجم آنذاك مسرحية «البرجوازيين الصغار» لمكسيم جوركي، والمجموعة الكاملة لمسرحيات تشيكوف عن اللغة الروسية، وفي أعماله التالية نرى آثار سترندبرج وجوركي وبريخت، بل وتشيكوف ولوركا، ونشهد تفاعل نزعات الثقافة المسرحية المختلفة في فكر وفن كاتب غزير التجربة.

مشاركة :