إدارة الدين العام أمر معقد للغاية، خاصة مع تنامي تحول الدين الحكومي للدول الناشئة إلى أداة استثمارية تتسابق عليها الأسواق المالية الدولية والمؤشرات العالمية ذات العلاقة، وأصبحت المنافسة كبيرة لجذب الأموال في السوق الأولية، أي عند الطرح الأولي لأدوات الدين العام مثل الصكوك والسندات وغيرها من النماذج. والنجاح الكبير لأي دولة في جذب الأموال إليها يعتمد على عدة قضايا متزامنة، الأولى مدة الاستحقاق، والثانية نوع الفائدة على الورقة المالية، وقيمتها الاسمية ثالثا، ومدى قدرتها على التداول في الأسواق الثانوية رابعا. وكل ذلك يتطلب مستويات عالية من الشفافية الاقتصادية من قبل الدولة المصدرة، مع اقتصاد واعد، ونمو مستدام. كانت المملكة بعيدة عن هذه السوق النشطة لرأس المال، التي تمثل مصدرا مهما لتمويل المالية العامة والمشاريع الاستراتيجية، وكان الأمر يتطلب جهودا كبيرة في وقت قصير، لكنها استطاعت تحقيق ذلك في وقت قياسي، وأصبحت تنافس بقوة في الأسواق المالية العالمية، وتشير التقارير إلى ازدياد الطلب في الأسواق الثانوية على الإصدارات السعودية، خاصة بعدما أصبحت عوائد تلك الإصدارات جاذبة في الوقت الحالي، خاصة مع دخول "أدوات الدخل الثابت" في الأسواق الناشئة إلى مرحلة الفائدة المتدنية. في هذه القراءة، نجد أن المملكة استطاعت دخول الأسواق المالية العالمية في وقت جيد نسبيا، فالفائدة على الإصدارات تأتي عند مستويات مريحة تماما، كما استفادت من الوضع العالمي الراهن، حيث تشهد الأسواق العالمية تراجعا في النمو الاقتصادي. هناك قلق مستمر من تنامي المخاطر الاقتصادية، لهذا تشير التقارير إلى تراجع الفوائد على الإصدارات العالمية من السندات الحكومية والصكوك إلى مستويات الفائدة السالبة، فعوائد سندات الخزانة لأجل عشرة أعوام - مثلا - كانت تتداول عند مستويات 3 في المائة، لكنها أغلقت في الأيام القليلة الماضية عند مستويات 1.75 في المائة، ما يعني أن الدخل الناتج من هذه السندات وهذه الإصدارات قد لا يغطي تكلفة الحصول عليها، وهو ما يجعل العائد الناتج من هذه الإصدارات غير جذاب تماما، وهو الأمر الذي يقلق المؤسسات الاستثمارية الكبرى، مثل الصناديق الحكومية السيادية وصناديق التقاعد التي تقع تحت الضغط المستمر لدفع تدفقات نقدية ثابتة. ولمقابلة هذا الضغط، تبحث هذه المؤسسات عن إصدارات ذات دخل ثابت بفائدة أفضل من السائدة حاليا. وقد استطاعت المملكة أن تقدم هذا النوع من العوائد الثابتة الجاذبة وفي الوقت نفسه مناسبة للاقتصاد السعودي، ما أوجد تسابقا محموما على الفوز بحصة من الإصدارات السعودية في مختلف الأسواق العالمية، وسجلت التقارير أن معظم الإصدارات السعودية بمختلف آجال الاستحقاق، أصبحت تتداول فوق قيمتها الاسمية وتسجل ارتفاعات قياسية جديدة مع تمسك المستثمرين الأساسيين بها. وهنا، يمكن القول إن الرغبة المحمومة في الحصول على الإصدارات السعودية لو تم تداولها فوق القيمة الاسمية، تدل بشكل جلي على أن الأسواق المالية العالمية لم تزل تتوقع التحسن في الاقتصاد السعودي مقارنة بالأسوأ في أجواء الاقتصاد العالمي، وهذا في مجمله يجعل المؤسسات الاستثمارية العالمية ترى في الاقتصاد السعودي والإصدارات السعودية ملاذا آمنا. إن الفائدة والعائد يلعبان دورا مهما في جذب الاستثمارات، لكن المهم أيضا هو تلك الثقة الكبيرة بالاقتصاد، بما ينشئ سوقا ثانوية كبيرة على الإصدارات المختلفة، ويمكن المستثمرين من الخروج عند الحاجة إلى سيولة نقدية. وقد حققت أدوات الدين المختلفة للمملكة نجاحا كبيرا في مستوى السوق الثانوية، وهذا يتطلب جهدا كبيرا مستمرا في شكل فيض من المعلومات والشفافية للأسواق حول الاقتصاد والقرارات الاقتصادية المتعددة، وأيضا مصداقية كبيرة في الأرقام التي تعلنها المملكة، حيث صادق صندوق النقد الدولي على التقارير كافة التي أصدرتها المملكة، وعلى خطوات الإصلاحات المالية "ورؤية 2030" والتوازن المالي، ما يجعل المخاطر الائتمانية التي تحملها الإصدارات الحكومية السعودية هي الأقل، ويحمل رسائل اطمئنان كبيرة في قدرة الحكومة على خدمة الدين واستمرارية العوائد، ودفع كامل الاستحقاق عند الموعد.
مشاركة :