القاهرة: جمال القصاص تجر رواية «الحريم» للكاتب حمدي الجزار الطفولة وراءها، وتنسج من مناخاتها وروائحها الخاصة عباءة سردية لأنا مركزية تهيمن على النص، نتعرف من خلال مراحل ومحطات نموها ووعيها بالعالم والأشياء على تجربة حياة خصبة في حي ابن طولون الشعبي أحد أبرز أحياء القاهرة القديمة العريقة، وكذلك أنماط العيش فيه على المستوى الفردي والاجتماعي والإنساني. ورغم أن خيوط السرد والحكي في هذه الرواية الصادرة عن دار «صفصافة» بالقاهرة والتي حصلت على جائزة أفضل رواية في معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الماضية، لا تبرح عين السارد (الكاتب) في كل فصولها، فإننا أمام ذات منفتحة على عالمي الداخل والخارج معا، فالأشياء والشخوص والمواقف والرؤى والأفكار، ومشاحنات الواقع اليومي سواء في نسقه الواقعي أو المتخيل، دائما تُستحضر من خلال عين السارد، كما أنه لا يقبض عليها بصرامة وخشونة، بل يتعامل معها بخفة وحيادية، مكتفيا بالعيش في ظلالها، واكتشاف ذاته من خلال ترويض هذه الظلال، وكذلك شهواته الدفينة في المعرفة والحب والجنس، تاركا المكان وراءه كعلامة أو إشارة عابرة على أثر ما. تصطحب الرواية - التي نفدت طبعتها الأولى بحسب الناشر – النساء، وتعنون بأسمائهن فصولها العشرون، ويتماهى نمو الطفل (سيد بطل الرواية)، الذي غادر ثديي أمه ومرارة الصبار بعد أربع سنوات، مع نمو حركة السرد وتقاطعاتها في مرايا الشخوص الأنثوية، اللاتي يتعرف عليهن في صحبة أمه، ويلتقط حكاياتهن من غبار الحارة، أو اللاتي يتعرف عليهن بمفرده، بعدما يكبر وينضج، كما يرتبط خط السيرة الذاتية للبطل، بتداعيات المكان، والعيش في بيئة مهمشة، يمثلها واقع الحارة الشعبية بامتياز، أغلب ناسها فقراء يمتهنون حرفا ومهنا بسيطة، بداية من الأب فرج «أسطى الموبيليا» ذائع الصيت، وروحية أشطر خياطة في «طولون»، و«عليمي» الفاكهاني المتجول وزوجته لوزة، وأم شفيق «الدلالة» وبناتها الثلاث، وابنها «الحرامي» الذي طفش من الحي وعاد إليه مقتولا، ثم «أُنس» صاحبة شقة الفرفشة العتيقة. ورغم تعدد الشخصيات فإن شخصيتي الأب فرج والأم بطة، هما الأبرز في كل تفاصيل الحكاية. في هذا المناخ وبعاطفة مشبوبة عاطفيا وإنسانيا ترصد الرواية أغوار عالم «الحريم» وحبائله السرية في حياة البطل، واشتباكه مع هذا العالم، الذي يتميز بطابع الفطرة وبداهة المعرفة في مرحلة تعليمه الأولى بالمدرسة، ثم يصطبغ بوعي سياسي واجتماعي وإنساني أوسع بقضايا المجتمع، في أثناء دراسته الفلسفة بالجامعة، حيث يتعرف على النشاط السياسي للطلبة، ويصادف أنماطا أخرى من النساء أكثر نضجا، لكن تصدمه في علاقته بهن فكرة الحب في مجتمع شرقي يضع الذكورة دائما في الصدارة. وفنيا يدور النص في فلك لغة سردية موجزة شفافة، خالية من الترهل البلاغي، يتناظر فيها المحكي الشفاهي ابن الحياة اليومية وتراث الحارة، والمتخيل المحلِّق، الذي تعلق به ومضات من شطح الخيال وفانتازيا الواقع. وهي لغة حكاءة تجيد الوصف، وتتخذ منه مقوما فنيا لتوثيق تاريخ الأشياء والعناصر ومظاهر البيئة المحلية، ومنها توثيق الراوي لأنواع الخشب وصبغات الطلاء، بعد أن اكتسب خبرة ضافية بعالم النجارة في ورشة والده، حتى إنه أصبح ينظر إلى العالم باعتباره مجموعة من قطع الأثاث، يتفاوت فيها القديم والحديث، وكذلك وصفه لطقوس المولد الشعبي، السيدة زينب ونفيسة وسكينة. ومنها أيضا وصفه الحاذق لأجساد النساء والفتيات، وقنص مواطن الفتنة والأنوثة في ملامحهن. إنها تفاصيل صغيرة، تطفو على سطح حياة الراوي، يلتقطها بعناية وعفوية، ويشكل منها سردًا ووصفًا وتعليقا، مضيفا إلى منظوره اللغوي السلس ملمحا مهما، وهو الحكي على سننه، وعواهنه المرمية على قارعة الأزقة والحواري في الحي الشعبي. وهو ما يتجسد حين يصف الكاتب الراوي، لحظة فرحه بدخوله المدرسة بعدما أخبره والده بذلك، قائلا: «الفرح جعلني أنط وأتقافز، وأنسى أبي وأمي، وأصفق بكل قوة على كفيّ، وأصيح: هيه.. هيه. كنت مبسوطا جدا، لأنني سأرتدي زيا مدرسيا خاصا بتلاميذ المدرسة الابتدائية. سأصبح تلميذا كحلمي وعبد الظاهر ولطفي. سأصير كالأولاد الكبار الذين يعيرونني، ويقولون: عيل صغير. ويبعدونني عنهم: امش العب بعيد. عندما يلعبون الأولى، أو تريك تراك، أو كرة القدم في ميدان طولون». وطيلة الرواية يتمثل الكاتب (السارد) ذاته بصيغة يغلب عليها ضمير الأنا المتكلم، بينما تتخفف طاقة السرد من ضمير الغائب، ليؤكد حضوره الراهن في النص، وفي الوقت نفسه، يمتلك القدرة على تحويل رغباته العاطفية المراهقة المشبوبة، إلى نسق من القيم والأفكار تعبر عن طموحه في عالم جديد، وحياة مغايرة. لكن هيمنة صيغة أنا المتكلم رغم أنها تعزز صيرورة الوعي بالذات واستقلاليتها، بعيدا عن أي سلطة، حتى لو كانت رمزا أو قناعا، فإنها تجر خط السرد، في بعد أحادي، ينعكس أيضا على خط الزمن، فالراوي لا يستعيد وعيه بالزمن من ماض بعيد أو قريب، وإنما مما يعيشه في تقاطعات حياته اليومية بلحظات حلوها ومرها، وهو ما جعل ثمة مسافة في النص بين السيرة الذاتية للمكان الغني بتاريخه وامتداده في الزمان، والسيرة الذاتية للبطل، فبدا المكان - أحيانا - مجرد قشرة وغلالة للنص، واكتسبت عين السارد طابع البوصلة السياحية العابرة. لكن رغم هذا استطاعت الخلطة الأنثوية المتنوعة في الرواية أن تحقق متعة ما، وتشد خيوط الحكي إلى الأعلى دراميا وإنسانيا بذكاء ورهافة مشاعر، برز هذا على نحو لافت في براءة مروياته عن النساء والفتيات، اللاتي صادفهن في مرحلة الجامعة، ويفقدهن في ذروة نشوى ناقصة ومبتورة، بل همجية أحيانا، تكشف الفجوة ما بين مفهوم الحب في الثقافة الشرقية والغربية، فالأول قرين الخوف والأعراف والتقاليد، والثاني قرين الإرادة الحرة المستقلة، فيصدم إلى حد الإحباط والاكتئاب في علاقته بـ«ماري» الأميركية، و«ساها» اليابانية، ويرحل عنهما في صمت، باحثا عن مبررات واهية، تحرره من إحساس ما بالذنب تجاه نفسه والحياة من حوله. إن سيد بطل الرواية لا يفشل في الحب لأنه يجهل حقيقة المرأة، وإنما لأنها أصبحت نقطة شائكة ومعتمة في لاوعيه، ومن ثم أصبح شاغله الوحيد هو التحرر من الخبرات الصادمة والذكريات المؤلمة التي عاشها في ظلال هذه الحقيقة، وهربا من كل هذا يستسلم إلى حياة الحي، للأعراف والتقاليد، فيلجأ إلى أمه التي هرمت بعد موت والده وزواج أخته الوحيدة منى، طالبا منها أن تزوجه، ضاربا بالحب عرض الحائط، ودون اكتراث لأية عواقب وخيمة تنجم عن هذه المغامرة، وهو ما انعكس على حياته الباردة مع سلوى، مدرسة العلوم، ابنة عبده القماش التي اختارتها أمه زوجة له. لقد انحاز لفلسفة الجبر على الاختيار، فضل بداهة المعرفة، بل سذاجتها، ليراكم بها بقعة الخوف الكامنة في داخله، التي تجلت في علاقته الضدية بغريمه عبد الظاهر ابن الطفولة والصبا، ووصلت لذروتها في مشهد الرواية الأخير، حيث يتحول عبد الظاهر، المخيف الشرس إلى سلطة قاهرة وهو يسمم كلاب الحي الطيبة، انتقاما لما أصاب كلبه الأسود المرعب من جراح، وكأنه يمارس نوعا من التشفي الممتع، وينعكس صدى المشهد داخليا بقوة على سيد (بطل الرواية) كمرثية مقنعة لعلاقته الفاترة بزوجته، فيتساءل بمرارة مناجيا نفسه: «هل يصير الواحد رجلا حقيقيا، وهو ما زال يشغل نفسه بالخوف، يشغل نفسه بعبد الظاهر وكلبه، وهو ممدد إلى جوار امرأته».. إنه إذن مأزق الرواية في البحث عن صراع ما، يحرر هذه الحكايات السردية من وطأة الخوف واعتباطية المغامرة، ويخترق الماضي والحاضر، الجسد والروح، بحثا عن طفولة أبعد للذات والزمن والأشياء.
مشاركة :