السودان.. اتفاق العبور إلى المستقبل

  • 8/21/2019
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

يسجّل للسودانيين أنهم «أداروا» خلافاتهم، بروح المسؤولية وتغليب روح التسامح، المعروفة عنهم، والتمسك بثقافة التنوع والتعددية وتقاليد قبول المختلف والرضا بالاحتكام إلى منطق القواسم المشتركة والتخلي عن منطق «انتهاز الفرص» الذي يفسد آليات استثمار اللحظات التاريخية الفاصلة، وهذا المناخ العام، إذا ظل سائداً، هو الذي سيساعدهم على تذليل الكثير من عقد وعقبات المرحلة الانتقالية الأكثر صعوبة وتشابكاً، ويسجل للحركة المدنية، التي قادت الشارع ووظّفت ثقله وتأثيره على مسار الحدث، الانضباط العالي والإصرار على تحقيق أهداف الإطاحة بنظام البشير والتخلص من مخلفاته، دون الانزلاق إلى الفوضى التي تفسد هدفهم، ويحمد للمجلس العسكري تقديره للحالة وضبط النفس وقراءة المزاج العام، في الداخل والخارج، ومشهد توقيع الاتفاق وموجة الفرح العارمة التي عمت الجميع، تؤكد رغبة الأطراف المؤثرة في تجاوز الماضي، وعدم تفويت فرصة استثمار هذا المنجز الذي لقي ترحيب ودعم الأشقاء والأصدقاء والدول الكبرى. ومن الطبيعي أن تكون المرحلة الانتقالية، بتفاصيلها المعقدة، في حاجة إلى التمسك بروح الاتفاق، وتحكيم آلياته ومنطقه في معالجة كل ما يعترض العبور إلى المستقبل، ولا شك أن المتابع للشأن السوداني يدرك حجم التحديات الكبرى التي تقف في طريق هذا الاتفاق التاريخي، من حركات مسلحة ترفع شعارات المظلومية، ونزعات انفصالية تستثير أتباعها وتوغر صدورهم على المركز في الخرطوم، مع ضغوط مشاكل اقتصادية ومالية تضعف قدرات الحكومة المركزية في سرعة إطفاء «الحرائق» ومعالجة المطالب الحياتية العاجلة، لكن صدق النوايا وواقعية الحلول والإصرار على عدم التورط في فوضى الاختلافات والبحث عن نقاط الالتقاء وترتيب الأولويات، ستعين على تجاوز الكثير من المعضلات. ومما يدعو للتفاؤل، دون إفراط، أن نص الاتفاق المعلن يشير إلى التفاهم على القضايا «المفصلية» المؤثرة في المرحلة الانتقالية، ومنها «الوحدة الوطنية» التي أشار الاتفاق إلى «قدسيتها»، فهذه القضية من المتوقع أن تواجه تحدياً حقيقياً من مناوئيها، بغض النظر عن شعارهم المرفوع، مما يتطلب الوعي بخطورة تمكين أعدائها من استغلال هشاشة المرحلة الانتقالية، لتحقيق مكاسب تضر بالوحدة الوطنية أو توهن بعض أسبابها، كما يتطلب من موقّعي الاتفاق الكثير من «الحلم» لاستيعاب الذين يظنون أنهم أقصوا أو همشوا، وهذا يعطي أهمية كبرى لمبدأ «الشراكة» الذي نص عليه الاتفاق، فهذا المبدأ معرض، في تنفيذه لتحديات أصعب من الاتفاق عليه، و«إدارته» بصورة ناجحة تتطلب فهماً مشتركاً وإدراكاً لطبيعة مكونات الأطراف المسؤولة عن تنفيذه، فإذا كان الانسجام والانضباط سهلاً في جانب المكون العسكري، في المرحلة الانتقالية، فإن الوضع مختلف في جانب الحراك المدني (قوى الحرية والتغيير ومن معها من القوى المدنية) نتيجة لطبيعة هذا المكون، وإذا لم تراعَ هذه الفروق، بين المكونين، فإن مقاصد «الشراكة» قد تتأثر بالتجاذبات المحلية وتؤثر على علاقات خارجية يمكنها أن تساعد على تسريع خطوات عبور المرحلة الانتقالية، ويلاحظ، في الاتفاق، أن المكون المدني هو الذي يختار رئيس الوزراء، الذي يختار بدوره، أعضاء حكومته من مرشحي قوى الحرية والتغيير، على أن يكونوا شخصيات وطنية مستقلة من ذوي الكفاءة، وإن أعطى الاتفاق رئيس الوزراء حق «اختيار شخصية حزبية ذات كفاءة أكيدة لممارسة مهمة وزارية»، وأعطي المكون العسكري، في المجلس السيادي، مسؤولية تعيين وزيري الدفاع والداخلية. وهذا البند من الاتفاق، يوحي بالإصرار على المسار المدني، فالحكومة، في عمومها، من اختيار قوى الحرية والتغيير، وهو اتجاه يمهد الطريق لما بعد المرحلة الانتقالية ويسهل الدخول فيها دون انقطاع، ويحمد للمكون العسكري قبوله بهذا المبدأ الدال على حسن النية والعزم على الدفع باتجاه «مدنية الدولة»، ويقوي هذا الاتجاه عدم جواز ترشح الوزراء وكبار التنفيذيين في المرحلة الانتقالية للانتخابات المقبلة، وهذا الشرط، مضاف إليه استقلالية أعضاء الحكومة، يحسن من أداء المرحلة الانتقالية ويبعدها، بالقدر الممكن، عن توظيف مسؤولياتها وإمكاناتها لصالح القوى الحزبية التي تدخل الميدان السياسي بعد المرحلة الانتقالية، وهكذا تبدو بنود الاتفاق معبّرة عن رغبة حقيقية في الالتقاء عند القواسم المشتركة من أجل التقدم خطوات في الاتجاه الصحيح، ويؤكد هذا الفهم تأجيل البت في موضوع المجلس التشريعي بعد أن تمسّك كل طرف بنسبة تمثيله في هذا المجلس، وتم الاتفاق على تأجيل تشكيله إلى ما بعد شهر من تكوين المجلس السيادي، وهذه الخطوة تدعم مسار حسن النوايا الذي يبديه الجميع، لكن هل يؤدي تشكيل مجلس الوزراء ومنحه سلطات المجلس التشريعي في سن القوانين لفك الاختناقات وتقليل مخاطر الانفجار، إلى التشدد في محادثات تشكيل المجلس التشريعي؟ ويحسب للموقعين على الاتفاق نظرتهم لقضايا الداخل السوداني وترابطها مع العالم الخارجي، وإدراكهم أن تجاوز المرحلة الانتقالية بنجاح يتطلب فهماً وتعاوناً خارجياً، بل يمكن أن تكون رحلة العبور من المرحلة الانتقالية، دون التفهم والدعم الخارجي، محفوفة بمخاطر الفشل ووضع العراقيل في الطريق، ولهذا نصّ الاتفاق على دعوة «الاتحاد الأفريقي، والأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والجامعة العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي، والدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، وكافة الدول الشقيقة والصديقة لحشد الدعم القوي الاقتصادي والمالي والإنساني لتطبيق هذا الاتفاق ومساندة السلطات الانتقالية». وفي هذا البند يلاحظ المراقب تصدر الاتحاد الأفريقي قائمة المدعوين من المنظمات الإقليمية، وهي إشارة تحمل تقديراً لموقف الاتحاد الأفريقي من انتفاضة الشارع ووساطته «التوفيقية»، واهتمامه بحل يخرج السودان من مخاطر المجهول، كما فيه إشارة دالة على أن موقّعي الاتفاق يقدرون أن بلدهم، بموقعه الجغرافي ومكونه العرقي وتنوعه الثقافي، هو بلد أفريقي، وأن «حساسية» السودانيين الفارقة روعيت في هذه المرحلة الحاسمة، وأن مراعاتها لا تنزع السودان من نسيجه وانتمائه العربي الأصيل. وقد أثبتت الأسابيع الماضية أن أشقاء السودان، يقفون معه في السراء والضراء، ومشهد الحضور العربي في حفلة التوقيع يكفي، ولهذا حديث آخر. * كاتب سعودي.

مشاركة :