مع فورة التغير التكنولوجي الجاري، لماذا يزداد التشاؤم في تنبؤات النمو طويل الأجل؟ على مدار العقد الماضي، أصبحت انعكاسات الابتكارات التكنولوجية الحديثة على النمو المستقبلي موضع نقاش كبير. فالبعض يرى أن الاقتصاد العالمي سيتمتع بطفرة نمو في العقود المقبلة مدفوعا بتحسن الإنتاجية بفضل التكنولوجيات الجديدة "دراسة 2014 Brynjolfsson and McAfee: ودراسة Mokyr 2018". ويحذر آخرون من أن النمو المستقبلي يمكن أن يتوقف أو حتى يتراجع لأن التكنولوجيات الجديدة من المرجح أن يكون لها تأثير حدي متناقص في الإنتاجية كما أن التحديات الهيكلية المرتبطة بالشيخوخة وتباطؤ نمو الاستثمار ستلقي بظلالها على الآفاق المستقبلية "دراسة 2016 Gordon". ومن الصعب، إن لم يكن مستحيلا إجراء تحليل كمی موثوق لمجمل تأثير التكنولوجيات الجديدة في آفاق النمو. غير أن تنبؤات النمو على المدى الطويل يمكن أن تلقي بعض الضوء على هذا النقاش. ويتوقع أن تتحسن هذه التنبؤات بمضي الوقت مع انتشار التقنيات الجديدة، مثل تعلم الآلة والحوسبة السحابية وعلم الروبوتات والهواتف الذكية. لكن هل هناك بيانات مؤيدة لذلك نتناول في دراستنا هذه كيف تطورت التنبؤات بعيدة المدى خلال فترة التغير التكنولوجي السريع بغية قياس ما قد يعنيه ذلك بالنسبة للنمو المستقبلي "دراسة Kose, ohnsorge and Sugawara قيد الإصدار". ويستند تحليلنا إلى التنبؤات التي نشرتها "Consensus Economics"، وهي مؤسسة تجري مسوحا عدة مرات سنويا للتعرف على واضعي التنبؤات المحترفين بهدف إعداد توقعاتها للنمو السنوي طويل الأجل -متوسط التوقعات يغطي فترة تمتد من ستة إلى عشرة أعوام. وتعكس تنبؤات مؤسسة "Consensus Economics" آراء عديد من المؤسسات التي تستخدم طائفة واسعة من المنهجيات، وبالتالي فهي غالبا ما تصمد أمام عدم اليقين المحتمل أكثر مما تصمد التوقعات التي يعدها كيان واحد. وتشمل عينتنا تنبؤات طويلة الأجل للفترة 1998 – 2018، لـ20 اقتصادا متقدما و18 اقتصادا صاعدا وناميا تسهم بنحو 90 في المائة من إجمالي الناتج المحلي العالمي. في أعقاب الأزمة المالية العالمية استمر التخفيض المطرد للتنبؤات طويلة الأجل. فقد أشارت التوقعات في 2010 إلى أن الاقتصاد العالمي سينمو بمقدار 3.3 في المائة عام 2020. وبحلول عام 2018 خفضت توقعات النمو طويل الأجل إلى 2.5 في المائة. إضافة إلى ذلك خفضت التنبؤات طويلة الأجل لكل البلدان بمقدار 1.4 نقطة مئوية في المتوسط عامي 2007 و2018. ومن التفسيرات السريعة لهذه التوقعات التي تزداد تشاؤما هو أن واضعي التنبؤات لديهم نظرة قاتمة تجاه الفرص التي توفرها التكنولوجيات الجديدة في العقد المقبل. وكانت الأزمة المالية العالمية نقطة تحول في توقعات النمو العالمي طويل الأجل. فبين عامي 1998 و2007 ارتفع متوسط التنبؤات طويلة الأجل من 3 إلى 3.4 في المائة وزاد في نحو نصف الاقتصادات محل الدراسة. وتمتعت اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية على وجه الخصوص بتحسن في آفاق النمو قبل الأزمة لكن التنبؤات كان يجري تخفيضها بالفعل للاقتصادات المتقدمة في أوائل التسعينيات. وبعد فترة وجيزة من تحسن التنبؤات أواخر التسعينيات، عاد التراجع التدريجي للتنبؤات طويلة الأجل في الاقتصادات المتقدمة في مطلع الألفينيات. ومنذ أزمة 2008 - 2009، تدهورت هذه التنبؤات بشكل ملموس لكلتا المجموعتين من البلدان. كذلك يتبين ضعف توقعات النمو طويل الأجل بعد الأزمة من خلال مقاييس النشاط المختلفة، بما في ذلك معدلات نمو نصيب الفرد من الدخل والاستثمار والاستهلاك، وإن تفاوتت السرعات ودرجات الحدة. ويشترك عديد من الاقتصادات الكبرى بشكل عام في نمط زيادة التنبؤات طويلة الأجل قبل الأزمة وخفضها بعد وقوعها. فعلى سبيل المثال، كان من المتوقع عام 1998 أن يبلغ النمو في الولايات المتحدة نحو 2.4 في المائة عام 2008. لكن بحلول عام 2008، رفعت توقعات النمو طويل الأجل بمقدار 0.3 نقطة مئوية. وبالمثل، كان من المتوقع عام 1998 أن يبلغ النمو في الصين 7.5 في المائة على مدار العقد التالي، وبحلول عام 2008 رفعت توقعات المدى الطويل بمقدار 0.2 نقطة مئوية بعد الأداء القوي للاقتصاد في العقد السابق. وعلى الرغم من رفع التنبؤات طويلة الأجل للبرازيل والهند عام 2008 مقارنة بتوقعات عقد سابق، فإن هذه التعديلات الرافعة لم تستمر. وبحلول عام 2018، كانت كل تنبؤات النمو طويل الأجل لهذين الاقتصادين قد انخفضت بمقدار 0.3 إلى 2.4 نقطة مئوية عن مستويات عام 1998. يعكس تطور التنبؤات طويلة الأجل ما شهده الاقتصاد العالمي من تقلبات عاتية خلال العقدين الماضيين. فقد تزامنت قوة آفاق النمو قبل الأزمة مع توسع غير مسبوق في التجارة العالمية والتدفقات المالية إلى جانب نمو سريع في بعض اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية الرئيسة. وخلال الفترة 2003 - 2007، سجل الاقتصاد العالمي واحدا من أفضل مستويات النمو منذ أوائل السبعينيات. ومع ذلك، تحولت الرياح المواتية إلى رياح معاكسة أثناء الركود العالمي عام 2009، الذي تلاه تعاف هزيل، ولا سيما في الاقتصادات المتقدمة. وخلال عامي 2010 و2015، تعرضت الآفاق طويلة الأجل لمعوقات أكبر بفعل أزمة الديون في منطقة اليورو خلال عامي 2011 و2012 والتباطؤ الحاد في اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية الذي يعزى في جانب منه إلى تراجع أسعار السلع الأولية. ويأتي تراجع تنبؤات النمو طويل الأجل انعكاسا أيضا للقوى الهيكلية المرتبطة بالتغييرات الديموغرافية وآفاق الاستثمار والاتجاهات العامة للإنتاجية. وقد بدأت هذه القوى تعمل بالفعل على تأكل النمو العالمي الممكن، أي معدل نمو الاقتصاد العالمي بكامل طاقته عند مستوى التوظيف الكامل. وخلال الفترة 2013 - 2017، كان النمو العالمي الممكن أقل بنحو نقطة مئوية بالفعل مما كان عليه في العقد السابق نتيجة ضعف نمو الإنتاجية، والتوسع البطيء في الاستثمار، واتساع نطاق التباطؤ في نمو السكان في سن العمل.
مشاركة :