الركود المتوقع نتيجة تبني بعض الدول لهجة شعبوية وسياسات حمائية خبراء يستبعدون الركود لأن الاقتصاد العالمي مازال أفضل حالا من أزمة 2008 غالبًا ما يتم تعريف ظاهرة الركود الاقتصادي على أنها تراجع في النمو السنوي العالمي إلى أقل من 2.5%، ووفقًا للبنك الدولي في تقاريره عن آفاق النمو الاقتصادي العالمي تبلغ نسبة النمو حاليًا 3% تقريبًا، وهي بعيدة بعض الشيء عن النسبة الرسمية للركود، ولكنها ما تزال مصدر قلق؛ لأن المعدل الحالي للنمو أقل مما كان عليه في 2017؛ حيث بلغ 3.15%. وهناك خمسة أسباب تدفع كثيرا من الاقتصاديين إلى توقع ركود اقتصادي عالمي؛ الأمر الذي يعيد إلى الأذهان ذكريات الأزمة الاقتصادية الكبرى في ثلاثينيات القرن الماضي، وأزمة 2008, وللمرة الثالثة تصدر هذه الأزمات من الاقتصاد الأمريكي، ثمَّ تعم تداعياتها الخطرة العالم كله، ويعزز من هذه الأسباب السياق الحالي لبعض الدول وانتهاجها سياسات في تبني اللهجة الشعبوية، والسياسات الحمائية، والتوجهات القومية التي أحدثها صعود قادة أمثال: دونالد ترامب وبوريس جونسون. وتكمن الأسباب الخمسة في الآتي: تباطؤ النمو الصناعي الأمريكي، والحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، وعدم الاستقرار في هونج كونج، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وانكماش الاقتصاد الألماني، والسؤال المطروح هو: كيف يمكن لهذه الأسباب أن تعزز من الركود العالمي؟ هذا ما سنتناوله في هذا المقال التحليلي. 1 – تباطؤ النمو الصناعي الأمريكي: مما لا شك فيه أن أكبر مصدر لحالة عدم الاستقرار في الاقتصاد العالمي هو التفكير في احتمال حدوث ركود أمريكي، وهذا الركود أصبح وشيكًا لوجود أدلة حديثة تؤشر عليه؛ حيث تباطأت عملية النمو في قطاع التصنيع الأمريكي إلى أدنى مستوى لها في 10 سنوات تقريبا في أغسطس 2019, ويتضح هذا الركود وفقا لمؤشر مديري المشتريات للصناعات التحويلية في أمريكا؛ فقد سجل هذا الشهر 49.9 نقطة، منخفضًا من 50.4 نقطة في يوليو؛ أي أقل من عتبة الــ50 نقطة، وهذا يحدث لأول مرة منذ الأزمة العالمية التي حدثت في سبتمبر 2009, ورغم أن التصنيع يلعب دورًا بسيطًا في الاقتصاد الأمريكي- حيث يمثل 11% فقط من إجمالي الناتج المحلي، ويبلغ حوالي 8% من نسبة العمالة- إلا أن المحللين يذهبون إلى أن أي ركود في هذا القطاع يكون له تأثير على معدل الإنفاق الاستهلاكي ويؤدي إلى إحداث ركود كلي، نظرًا إلى أن تباطؤ حركة التصنيع وتراجع الإنتاج الصناعي وتراجع الثقة في الشركات يؤدي ذلك إلى مراجعة الشركات وتقليص نفقاتها، وهذا بدوره يؤثر على استثماراتهم، وتوظيفهم للآخرين. وإذا بدأ الركود في أمريكا فإن التداعيات العالمية ستكون عميقة وكبيرة، ولها ارتدادات على المستوى العالمي؛ حيث تشكل أمريكا 24% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، مما يجعلها أكبر مساهم فيه لوحدها، كما أنها أكبر مستورد للسلع والخدمات في العالم؛ حيث تستهلك حوالي 14% من الواردات العالمية، ونتيجة لذلك فهي أكبر سوق تصدير لعدد من دول العالم، وتعد صحتها الاقتصادية أيضًا مؤشرا محوريا للاقتصاد العالمي، وهذا ينذر بأن أي انخفاض كبير في استهلاك المنتجات أو الخدمات في الولايات المتحدة سيؤدي إلى إلحاق ضرر كبير بصحة الاقتصاد العالمي. وحول هذه المعضلة الاقتصادية وتأثيراتها عالميا يؤكد جورج فريدمان- رئيس مركز جيوبوليتيكال فيوتشرز الأمريكي- على: «أن من شأن الركود الأمريكي أن يُقلل من الطلب على السلع الاستهلاكية، كما أنه سيكون له تأثير كبير على دورات الأعمال في البلدان الأخرى»، فالركود الأمريكي لا يؤثر فقط على المصدرين المباشرين إلى أمريكا ولكن له تأثير أيضًا على أسعار السلع والخدمات، ولذلك يرى فريدمان: «أنه كلما زاد الاعتماد على الصادرات، زاد تأثير الركود الأمريكي على زعزعة الاستقرار». 2 – الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين: زاد من بداية الركود العالمي الجديد في أمريكا والعالم بدء حرب التعرفة الجمركية مع الصين؛ فالحرب التجارية التي ينتهجها الرئيس ترامب أحد الأسباب الرئيسية لزيادة خطر الركود عالميا، وإذا نجح ترامب في التوصل إلى اتفاق مع الرئيس الصيني فإن خطر الركود سينخفض بشكل كبير، والرئيس ترامب ينتهج موقفا متشددا في سياساته الدولية؛ حيث يتبنى مفهوم (أمريكا أولاً), ويتضح ذلك من خلال سعيه الدائم إلى تطبيق سياسات (التجارة الحمائية)، فقد فرض في وقت سابق من العام الجاري 2019 رسوما جمركية بنسبة 25% على بضائع صينية بقيمة 250 مليار دولار، كما يعتزم فرض رسوم بنسبة 10% على 300 مليار دولار أخرى على البضائع التي تصدرها الصين اعتبارًا من ديسمبر 2019. وقد ردت بكين على الرسوم الجمركية التي فُرضت عليها بفرض رسوم بنسبة 25% على واردات أمريكية بقيمة 60 مليار دولار في يونيو 2019% وأضحى تأثير تلك الرسوم كبيرا على الصعيد الدولي، نظرًا إلى أن التبادل التجاري الصيني الأمريكي هو الأكبر في العالم، وتدعمه شبكة موسعة من سلاسل التوريد والخدمات المالية وغيرها من الصناعات الداعمة التي تشمل كل بلدان المعمورة تقريبًا، ومن هنا فالأضرار الكبيرة التي تسببها تلك الرسوم تشكل تهديدًا كبيرًا لاستقرار الاقتصادي العالمي، كما أنَّ الآثار الداخلية لهذه الحرب التجارية بالغة الأهمية والتعقيد؛ ولذلك حذر تقرير لصندوق النقد الدولي في إبريل 2019 من أنه من المتوقع أن تخفض تلك الرسوم في الوقت الحالي من النمو بأمريكا بنسبة 0.3 إلى 0.6%، وفي الصين بنسبة 0.5 إلى 1.5%، وعلى الرغم من أن أمريكا أثبتت مرونة حتى الآن فيما يتعلق بنموها الاقتصادي إلا أنَّ الصين شهدت أدنى معدل نمو لها منذ عام 1992, وذلك بتسجيلها نموًا بنسبة 6.2% في الربع الثاني من عام 2019. وكان للأضرار الناجمة عن الرسوم الجمركية أثر مضاعف على ما سبقها من قرارات تسببت في إلحاق الضرر بالاقتصاد الصيني منذ شهور، حيث كان أكثر نموا من الاقتصاد الأمريكي، ويعد داعما محوريا للاقتصاد العالمي منذ الانهيار المالي في عام 2008, ولكن الصين أضحت في خضم أزمة ديون شاملة؛ فالصناعات الحكومية «اقترضت بكثرة وكذلك المستهلكون»، بينما «البنوك مقيدة بقروض لم يتم سدادها أبدًا»، وفي كل مرة «تحاول بكين كبح جماح الإقراض الاستهلاكي من جانب المستهلكين والشركات»، ومع تباطؤ الاقتصاد العالمي يُجبر صانع القرار السياسي بالبلاد على خفض سعر الائتمان مرة أخرى. 3 – عدم الاستقرار في هونج كونج: من الأخطار التي تهدد الاقتصاد الصيني والاقتصاد العالمي استمرار حالة عدم الاستقرار في هونج كونج؛ ورغم تمتعها بالحكم الذاتي من الناحية السياسية من جانب الصين إلا أن هذه الجزيرة الصغيرة هي مركز مالي أساسي تعتمد عليه بكين في تحقيق الإيرادات وجلب الأموال، ولكن الاضطرابات- التي تشهدها هونج كونج منذ31 مارس 2019- بدأت تؤثر على النمو في الصين وآسيا بصفة عامة، وتسببت في هروب رؤوس الأموال، ومنع التدفقات الاستثمارية، وتعطيل سير الأعمال. ووفقا لهذه المعطيات السياسية فإن هونج كونج مقبلة على أن تكون عقبة تؤدي إلى تباطؤ عالمي كبير للغاية في الاقتصاد، أو ركوده، ولعل حالة عدم الاستقرار الاقتصادي في الصين الناجمة عن مزيج من تأثير الرسوم الجمركية المفروضة وغيرها من العمليات السلبية سيكون لها نفس التأثير على الإضرار بالاقتصاد العالمي، نظرًا إلى أنها ثاني أكبر سوق محوري للتصدير والاستيراد عبر العالم. 4 – خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي: ربما السبب الأكثر وضوحًا والدراماتيكي لهذا الركود هو انسحاب بريطانيا من التكتل الأوروبي، والمقرر ميعاده في 31 أكتوبر 2019, ومع نفاد الوقت أمام كلا الجانبين من أجل التوصل إلى اتفاق وانسحاب مستدام أصبح احتمال سيناريو تعطل أو توقف التعاون البريطاني الأوروبي لفترة من الزمن مؤكدا بشكل متزايد؛ فمن المرجح أن تؤدي حالة التردي في مستوى الاستثمار والاستهلاك على حد سواء- إلى جانب الآثار المالية المترتبة على التقلص أو الخسارة الكلية للمكاسب التجارية- إلى حالة من الركود سريعة الوتيرة. 5 – انكماش الاقتصاد الألماني: يعد الركود الاقتصادي لأكبر وأهم دولة أوروبية -ألمانيا- من المؤشرات القوية على الركود الاقتصادي العالمي؛ فلقد انكمش الاقتصاد الألماني بنسبة 0.1% في الربع الثاني من عام 2019, ورغم تعهد الحكومة الألمانية بإعداد حزمة إنفاق مالي وحوافز مباشرة لإنقاذ الاقتصاد بقيمة 50 مليار يورو- تحسبًا لحدوث ركود اقتصادي- فإن المحللين يرون أن الوقت قد فات للغاية لمنع حدوث تراجع أو إحداث علامات تحسن في معدلات الاستهلاك والاستثمار، وآثار هذا التراجع ستكون مدمرة على القارة الأوروبية ككل، لأن ألمانيا هي عملاق الاتحاد الأوروبي؛ حيث كانت تمثل أكثر من خمس الناتج الاقتصادي للاتحاد الأوروبي في عام 2017, فإذا بدأت ألمانيا في إنتاج عدد أقل من السيارات فإن مستورديها في أوروبا وأماكن أخرى سيشهدون انخفاضًا في الطلب، وبطئا في حركة الإنتاج، ونمو نسبة البطالة، وقد تتكرر تلك العملية عبر عدد من القطاعات التي تشمل جميع الدول الأوروبية تقريبًا. المخرج من أزمة الركود المحتملة هو التعاون الدولي: إذن ننتهي من هذا التحليل السابق إلى أن غالبية المراقبين يتوقعون أنه إذا لم يتم تخفيف حدة التدابير التي تؤثر على معدلات النمو العالمية الحالية فسيتجه العالم نحو ركود مدمر للغاية، يتصف بفقدان التجارة، وقلة تدفقات الاستثمار، وانهيار في أسواق العقارات، وانخفاض في الانفاق الاستهلاكي والتضخم والبطالة وغير ذلك من مجالات تضر بالاقتصاد العالمي. وفي غمرة تلك التوقعات المتشائمة يرى البعض أنه لن يحدث ركود عالميٌّ نظرًا إلى كون الدول- والتي تعد أحد مؤشرات الركود العالمي- لم تصل بعد إلى المستوى الذي قد تكون فيه الأزمة الاقتصادية العالمية أمرا حتميا لا محالة له، فمثلا تواجه أمريكا أزمة حالية في التصنيع، الذي يجعل من الركود احتمالاً مؤكدًا، إلا أنها ليست قضية يتعذر معالجتها، ومقارنة بعام 2007 وآخر ركود شهدته أمريكا- فيما يتعلق بأزمة الرهن العقاري- تبدو الظروف الاقتصادية الحالية خفيفة الوطأة، ومن ثم فقد خلص البعض إلى أن التعاون الدولي وتنفيذ برامج الحوافز المحلية سيكونان كافيين لمنع الانحدار نحو الركود العالمي.
مشاركة :