لعل كثيرًا منكم لا يعلم ذلك بعد، ولكن أصبح مختبر الفلسفة والفكر النقدي أشبه بكباريه فولتير مؤخرًا: يحتضن المهذارين الذين لا يسمعهم أحد. ولا تظنن أنني افتعل التفارق، فليس في كلامي أية مفارقة إطلاقًا، أوليس جميعنا نعيشها حرفيًا؟ من لا يصدق هذا الزعم سنأتيه باختبار قد يصحح رأيه، أن تعيش في البحرين لهي مفارقةٌ عظمى، إذ إن هذه الجزيرة الصغيرة كانت، منذ قرون خلتْ، مقبرةً كبرى، ومع ذلك، سميتْ بأرض الخلود. فلِم لا تمتد هذه المفارقة الجغرافية إلى الأفكار الفلسفية التي يتداولها نفرٌ من الشباب مجهولي الهوية؟ نحن نعلم جيدًا بأننا لسنا في زيورخ، وليس ثمة لينين بيننا، وأن فولتير لا يحسب رمزًا وطنيًا. كما أننا نسمع ما يتهامس به الآخرون: «الفلسفة؟ يا للعار! هناك مشاكل حقيقية في هذا البلد، من سيستمع إلى هذا الهراء؟»، وغيرهم من أنصاف المشجعين: «عملٌ جيد! لكن سيخيب ظنهم عما قريب،الصمت السياسي هو موقف، والانزياح إلى الفلسفة موقف سياسي. ومن قال إننا نزهر لنعيش؟» لكن يا ترى، ألا تتضح الأمور في فراغ المسافة وألا تتسع الصورة فتكون قابلة للاستكناه؟ كل ما عليك أن تقوم به هو الفرار من هذه الجزيرة بقارب صغير، وحينها سترى أنها ليست مجرد بحرين، بل ثلاثًا، أربعًا، خمسًا، مائة.. وذلك لأن جميعها بحرٌ واحدٌ! الحق يقال، إن الذي جعل من مثنى البحر مسمى هذه الجزيرة كان يبغي المساومة، ومن الممكن حينها أن ينهض مهرجٌ ليقول: بحران؟! أنت تقلب الأمور رأسًا على عقب. قل: ساحلان يطلان على بحرِ واحد، ذلك مسمى هذا المكان! حينها كان الجميع، طبعًا، متفقًا بأن الكناية لن تضر بأحد.. لكن هكذا تبدأ كل كذبة. 7:30 مساءً: الحضور قليل ولا يتعدى عشرة أشخاص، والمفارقة: أغلبية ذكورية تناقش موضوعًا عن المرأة! كلٌ له حقه في تفسير أي عنوان بالطريقة التي يجدها مناسبة، حتى وإن حضرت محاورًا تحدد سير النقاش. شخصيًا، أرى أن الحوار لا يمت بصلة بالمرأة بيولوجيًا، أو وجود هذا الكائن البيولوجي -ودوره التاريخي- في الفلسفة. الكلام يجري على بنية الفلسفة في المقام الأول؛ وذلك لأن الفلسفة، حالها حال كل الأشياء، محدودة بنفسها، ولا يمكنها أن توجد بالمطلق (حيث ذلك وهم مثالي ليس إلا). دعنا نقول، للوقت الراهن، إن الفلسفة ككل أنماط التفكير تتشكل في خطاب أو قول معين، وذلك الخطاب -بضرورة الحال- متمفصل بأشكال شتى من الفكر: العلوم، والآيديولوجيا، والسياسة، إلخ. السؤال إذن، ما يقال في الفلسفة؟ ما هي دالات الخطاب الفلسفي؟ سنتمكن في هذه الحالة من تحديد حدود الفلسفة نفسها، أي بنيتها. نحن نعلم مثلاً بأن في الخطاب العلمي، لا يحضر الفرد، الذات الفاعلة، شخصيًا في الخطاب، وإن كان يعمل فيه أو يؤثر ويتأثر به. ما يصنع في العلم، ما ينتج فيه، هو المفاهيم، فالمفاهيم دالات الخطاب العلمي، وإطارها العلمي هو دائمًا الفرضيات العلمية. أما في الخطاب الفني، ولنفترض أن الكلام يجري على الأدب، يصنع الأديب مادة مقروءة تخضع لقواعد معينة يفرضها جنس الأدب الذي ينتمي إليه هذا الكاتب أو ذاك. ولكن ما هي دالات الخطاب الفلسفي؟ إنها ليست خطابًا علميًا، ولا فنيًا، ولا آيديولوجيًا. بِم تتميز إذن؟ ما يصنع أو ينتج في الفلسفة هو المقولات، أي المقولات (لا المفاهيم) هي دالات الفلسفة. أما الإطار الفلسفي هو دائمًا الأطروحات الفلسفية أو المواقع الفلسفية (لا فرضيات). يقدم الخطاب الفلسفي نفسه، إذن، في هيئة أطروحات أو مواقع فلسفية. وما يحصل في هذه الأطروحات هو أنها خضعت، تاريخيًا، لمواقع الفلسفة المثالية. معنى ذلك هو أن الأطروحات الفلسفية العظمى بدأت، تاريخيًا، كأطروحات مثالية، ولم تشكل المواقع المادية سوى مواقع نقيضة لها. إن تاريخ الفلسفة هو تاريخ البحث عن «سبب» الوجود: لماذا يوجد الوجود؟ هذا السؤال، الميتافيزيقي، هو سؤالٌ طرحته الفلسفة المثالية، والصراع الذي نتج للإجابة عن هذا السؤال هو الذي يحدد النزعة المادية والمثالية. إن مقولة «السبب» لا تقوم بذاتها، بل بتمفصلها بمقولات مختلفة، مثل: العقل، والفكر، والمنطق، والحق، واللوغوس، إلخ، أي بالضبط كون تاريخ الفلسفة هو تاريخ الأنطولوجيا. إن النزعة المادية التي خضعت لمثل مبدأ العقل هذا لا تختلف كثيرًا عن المثالية (إلا في تقديم جواب مقلوب لمثل السؤال، ولك أن تأخذ الفلاسفة الماديين التنويريين كمثال على ذلك)، هذا ما بينه هايدغر بشكل جيد جدًا. ارتبطت هذه المقولات، تاريخيًا، بدالات تحمل موقعًا سياديًا أو رئاسيًا في سلسلة الدلالات، فلوجودها، إن شئت أن استعمل كلمات لاكان، نقطة ارتكازية تتمحور حولها الدالات الأخرى -رغم أنها- في ذاتها، موازية تمامًا بالدال الرئيس (ولكنه يفرق عنها في حقيقة أنه دالٌ رئيسٌ، ويشكل بالتالي نقطة ارتكاز). هذه الدالات الرئيسة كانت، لأسباب تاريخية واجتماعية، موازية لدور الأب-السيد، سواء أكان حاكمًا، أم أبًا، من حيث وجوده كمانح للمعنى، والفكر، والنظام أو الانتظام، والمنطق، والفضيلة، إلخ (فويرباخ: «المرأة هي الوجود، الرجل هو الفكر»).الآن، حقيقة أن هذا الدور مرتبطٌ تاريخيًا بالرجل بيولوجيًا لا يغير من حقيقة أنه من الممكن للمرأة، بيولوجيًا، أن تحتل مكان (أو تنفذ) الدال الرئيس هذا، فالمسألة بنيوية لا بيولوجية. نقول كل ذلك ونحن نضع النموذج الجنساني للاكان في البال. ينقسم هذا النموذج إلى جانبين، في الجانب الذكوري نجد أن «الكل الخاضعٌ لوظيفة الفالوس باستثناء واحد من الكل لا يخضع له»، أو دعنا نقول: الكل الخاضعٌ للجويسانس الفالوسي إلا واحد يفلت منه دائمًا. للتعبير عن ذلك، نجد في مثل الجانب تشير الذات المشطوبة ($) إلى الآخر الصغير (a)، ذاك الذي يفيض أو يزيد عن الجويسانس. بهذا المعنى، لا يمكن للذات أبدًا أن تشبع بما أنها في سعي لا ينتهي لموضوع لا يمكنها أن تحصل عليه تمامًا، هذا الهوس الأبدي الذي ينتهي للحصول على إدراك ما، شيء ما، أو باختصار: رغبة ما، دائمًا ينتهي بالفشل، هناك دائمًا شيء يفلت. أما في الجانب الأنثوي من مثل النموذج فنجد أن «لا الكل يخضع للوظيفة الفالوسية، ولكن ليس ثمة استثناء، لا يوجد من لا يخضع للوظيفة الفالوسية». بمعنى آخر، ليس كل جويسانس -في هذا النموذج- يعود إلى الفالوس نفسه، فهناك ما يتعداه. إن الجويسانس النسوي يفتح احتمالية للهروب من الفالوس، لأنه دائمًا يشير إلى شيء آخر (نقول يفتح كاحتمالية، ولكن ليس بالضرورة). ويأتي التعبير عن ذلك في حقيقة أن المرأة المشطوبة تفتح خطين: واحد يشير نحو الآخر الممنوع، وثاني يشير نحو الفالوس نفسه. إن للمرأة، أو الذات الأنثوية، جزءًا يخضع -بالضرورة- إلى الفالوس، ولكن هناك احتمالية بأن هناك جزءًا آخر سيفلت من وظيفة الفالوس نفسه. اتفق مع سلافوي جيجك بأنه لا بد من قراءة هذا النموذج للاختلاف الجنساني عند لاكان بالشكل الأنطولوجي الفلسفي للكلمة. إن الجانب الذكوري سيمثل، بهذا المعنى، حقيقة أن كل شيء ضروري باستثناء شيء واحد، هناك دائمًا ما يفلت، بشكل صدفوي، من الكل-الضروري. إن هذه النقطة أرسطية بامتياز، فالإنسان، حسب أرسطو، هو نتاج طبيعي لعلاقة جنسية معينة ما بين الرجل والمرأة. والإنسان الطبيعي هو الذي يشبه إما أباه وإما أمه، أو بالأحرى -أو الأفضل- الاثنين معًا. ولكن هناك دائمًا حالات تفلت من هذه القاعدة حيث يمكن للإنسان ألا يشبه كليهما، ويصير -بالتالي- مسخًا؛ بكونه نتيجة خاطئة لعملية طبيعية جدًا. أما الجانب الأنثوي سيمثل حقيقة، كما يقول جيجك، أن ليس كل شيء خاضع للضرورة، ولكن ليس ثمة شيئًا لا يخضع لها. لكن هل يفتح هذا المنطق، بأشكاله المختلفة، إمكانية التحرر من هيمنة الخطاب الفلسفي؟ نترك المسألة هذه للجزء الثاني من المقالة.
مشاركة :