تقومُ الفلسفةُ على ميتافيزيقيا الحضور، حضوريّة الحضور أو وجوديّة الوجود. هذا هو المعنى الوحيد الذي نمنحه لسبب وغاية الوجود. وما يمثله ذلك هو الجانب الذكوريّ، في حضوريّة الفالوس أو الدال الرئيس، الذي يعيّن الحضور نفسه أو يُفّعله. إن ذلك يجري عند الفلسفة المثاليّة والرد المادي عليها في مثل الوقت. مثلاً، الصور الأفلاطونيّة هي متعاليّةٌ تماماً عن الوجود الماديّ لها وذلك لا يعني أن أفلاطون يعّين للا-واقع أوليّةً على الواقعِ، بل على العكس الصور واقعيّةٌ جداً وفقاً للفكر الأفلاطونيّ. كما إن الصورَ ليست التصورات الفرديّة، حيث «هناك دائرة كاملة، ولكن لم يرَ احدنا دائرةً كاملةً». فالمسألةُ ليست مسألة أوليّة الفكر على الوجود، أو قل: التفكير على الوجود (كما يجري إتهام الفلسفة المثاليّة غالبًا)، بل تتجاوزُ الصورُ التفكير نفسه. ولكن ما يحدّدَ الفلسفة الأفلاطونيّة بأنّها مغلوبةٌ بالنزعة المثاليّة (ولكنها ايضاً تختزن نزعةً ماديّةً كما بيّن نيتشه، حالها حال كل فلسفة) هو ما يقع في العلاقةِ التي تقوم ما بين ثنائيّة الحس والصور. إن صورة الحق تسطعُ في العالم، ولكن لا بد تحقيقها أو السعي وراءها؛ أن الحقَ (بمعنى الخير) لا يوجد إلا كالمثال الأعلى لما ينبغي أن يصير، أن يكون، عليه العالم. هكذا، المثاليّة تبان في سبب (ايّ غاية) العالم نفسه. بلا شك، يلعبُ الحقُ والسببُ هنا دور حضور الحضور، أو الدال الرئيس الذي يشيرُ إلى المنطق الذكوري نفسه. دعوني استحضرَ مثالاً آخر أبين فيه كيف يمكن للماديّة أن تقعَ تحت هيمنة الخطاب الأنطولوجيّ الذي يؤطر الفلسفة. هناك الكثير من التفسيرات للفلسفة الديمقريطيّة الماديّة، ولكن كيف يمكن تحريفها نحو تفسيرٍ خاضعٍ لمركزيّة اللوغوس؟ طبعاً، يمكننا أن نقرّ: العالم يبدأ بتصادفٍ ما بين ذرتيّن (البداية هي العدم، ليس ثمة سبب لبداية العالم)، ولكن لا يقع هذا التصادف إلا ليخلق عالمنا الذي نعيشه، ايّ أنّ النظام أمرٌ كامنٌ في الفوضى - غاية الفوضى هي النظام. رغم أن ديموقريطوس سيرجع الأمور إلى الصدفة، وسينكر وجود أي عالمٍ متجاوزٍ أو متعالٍ على الوجود الواقعيّ الملموس، إلا أن سبب أو غاية الوجود (أو لنقل: معنى الوجود) يكمن في النظام نفسه، في السيرورة النظاميّة للعالم. هكذا، بشكلٍ ميكانيكيّ جداً، يمكن لفكرٍ مادي أن يُخضع أو ( يُفسّر) بشكلٍ لوغومركزيّ للأنطولوجيا. إن الخطابَ الفلسفيّ، إذن، بما إنّه خطابٌ أنطولوجيّ، يشيرُ إلى ميتافيزيقيا الحضور الموازية لشكل المنطق الذكوريّ الجنسانيّ - الذي لا يتعلق اطلاقاً بالذكر بايولوجيّاً. هناك بعض الأشخاص في الفلسفة ممن يمثلون التيار الماديّ الحقيقيّ (أو أيجدر بنا أن نقول تبعاً لليكور: السورماديّ؟) المتجاوز لمركزيّة اللوغوس نفسها، مثل: لوكريتيوس، وماكيافيلي، وسبينوزا، ونيتشه، وماركس، وآلتوسير.. إلخ. ولكن لا أتصورُ بأن كُلّ المحاولات التي انصبّت في تدمير المركزيّة هذه قد نجحت بالفعل في ذلك. إن جيجك الذي ينجحُ، مثلاً، في نصرةِ المفهوم الصدفويّ للعالم، بمعنى المنطق الأنثويّ، يعيدُ إنتاج الضرورة بفعل عامل الديالكتيك الإرتجاعيّ الذي ورثه عن هيغل (بقرائتهِ المميّزة له). إن الحدثَ بالنسبة إلى جيجك / هيغل، هو دائماً مموضع ارتجاعيّاً، ايّ، ليس ثمّة حدث سيُخلّق بالنسبة إليهما إلا بعدما يحدث ما حدث بالفعل! أما في الجانب الآخر، سيصح نقد جيجك تجاه الفكر الدولوزيّ، وهو ممثلٌ حقيقيّ للتيار الماديّ الفعليّ، بأنه محكومٌ من قِبل اللا-مبالاة الكونيّة العالقة في «كوننة الكلينامين»، حيث كل شيءٍ يصير وليست ثمّة ضرورة إطلاقاً - فالرغبةُ، حسب دولوز، هي تيارٌ لا نهائيّ وليس له أيّة غايةٍ، أما الاشباع فهي ما يُعيقها. فالحدثُ مفقودٌ من الجهاز النظريّ الدولوزيّ، بما إنّ كل شيءٍ هو حدثٌ في حدوثهِ! بينما الفكرة هي: كيف يمكن أن نخلّق شيئاً من لا-شيء؟ رغم أننا نعرف سلفاً بأنّ كل شيءٍ هو مثلما قالَ هيغل: من عدمٍ، في عدمٍ، وإلى عدمٍ. هكذا، بيد نجدُ أمامنا التسجيل الارتجاعيّ للحدث دون خلقه، وبيد أخرى التسجيل الكونيّ للحدث دون خصوصيتهِ. لكن ماذا يمكن أن تقدمه الماديّة التصادفيّة، بوصفها ممارسةً تقع في الجانب الأنثويّ، بهذا الخصوص؟ إذا ربطنا الأمور بالتحليل النفسيّ، تحدثَ مؤخراً جاك-آلان ميلر عن مفهومٍ جديدٍ قدمه في التحليل النفسيّ: «الذهان الاعتياديّ». يستحضرُ ذلك ما سميتهُ مؤخراً، وما أظنهُ يعبر عن حقيقة الماديّة التصادفيّة، بالارتجاع التصادفيّ بدلاً من الديالكتيكيّ. إن الذهانيّ، حسب هذا المفهوم، هو دوماً - ابداً مبنيّن سايكولوجيّاً بشكلٍ ذهانيّ، حتى قبل أن تظهر عوارض الذهان فيه. قد يكون فرد ما «طبيعيّاً» لسنواتٍ عديدة، ولكن في لحظةٍ ما «يجن جنونه» - هذا يعني بنيته النفسية كانت دائماً، منذ تكوينها، ذهانيّة. هذا التسجيلُ، طبعاً، يفترض شيئيّن: أولاً، أن يقام ارتجاعيّاً، وثانياً، أن يطرح السؤال: لما كان الذهانيّ يرفض الإخصاء كليّاً، وبالتالي الأب كدال رئيس إطلاقاً، كيف تمكن أن يعيش الحياة الرمزيّة كغيرهِ؟ الجواب لذلك يكمن في حقيقة أن الذات الذهانيّة قد تربط نفسها بدالٍ بديل عن اسم - الأب (العمل، الكتابة، الفن، إلخ). معنى ذلك هو أنّ التسجيل الارتجاعيّ لا يجري على الضرورة مركزيّة (أو دال ارتكازيّ)، بل على الفلتان هذا بالتحديد. كما إنّ ذلك يعني أنّ الدال الرئيس غير ثابت ابداً، أنّه دائماً قابل على الفك لأسبابٍ داخليّة. إن الجانب الأنثويّ من النموذج الجنسانيّ للاكان يفتحُ احتماليّة لهكذا ممارسة، بما إنّ هناك ما يرفض الفالوس نفسه. هذا الاحتمال يجب أن يُحمل لحدودهِ القصوى (والأمثلة الحقيقيّة لا أجدها إلا في نيتشه وهولدرلن، بوصفهما اسبينوزيّان جيدان): ليس ثمّة شيء غير ضروريّ، ولكن ذلك نفسه غير ضروريّ؛ لأن ليس - كُلّ - شيءٍ ضروريّ. إن هولدرلن، أعظم الشعراء اطلاقاً، عبر عن ذلك ببساطة: «لماذا لا يبدو الواحد واحداً، رغم أنه واحدٌ؟». 8:30 مساءً: أيمكن للمرأة أن تكون فيلسوفًا؟ نعم، لِمَ لا؟! لكنها ستخاطر أن تكون أمّاً فيلسوفاً بدلاً من الأب الفيلسوف، وستلعب مثل الدور تماماً. أيمكن للمرأة أن تكون فيلسوفاً؟ لماذا تريد أن تكون كذلك في حين يمكنها أن تصبح شيئاً أفضل من ذلك: ديناميتاً؟!
مشاركة :