يقول هيجل عن سبينوزا: إما أن تكون سبينوزيا وإما ألّا تكون فيلسوفا على الإطلاق. باروخ سبينوزا واحد من أعظم فلاسفة القرن السابع عشر وأحد أهم مكتسبات الحداثة الأوروبية الذي كان قد جاء قبل أوانه في عصر لا يزال يغرق في الظلام ولم تكن حتى بوادر التنوير قد ظهرت بشكلها المعروف، لذلك كان المُفكر المُفترى عليه من المتدينين اليهود والمسيحيين في أوروبا للدرجة التي جعلت أحد اللاهوتيين يكتب عبارة لتوضع على قبر سبينوزا تقول “هنا يرقد سبينوزا.. أبصقوا على قبره”. سبينوزا ولد في الرابع والعشرين من نوفمبر لعام 1632 في أمستردام بهولندا لعائلة يهودية مُهاجرة تنشد العيش وسط سيادة الديانة المسيحية بطوائفها في أوروبا، تعلّم في مدرسة يهودية وأتقن العديد من اللغات في فترة قصيرة فكان تلميذا شديد الذكاء وكان معلموه يعلقون عليه آمالا أن يكون رجل دين يهوديا مُنصفا لهم، لكنه في بداية العشرينات وبعد قراءته للفلسفة وللاتجاهات الفكرية المختلفة عن الأصولية التي تربى عليها، بدأ في الابتعاد عن ممارسة الشعائر الدينية اليهودية وبدأ التعبير عن أفكاره بخصوصها. ◙ بما أن فلسفة سبينوزا هي أساسا فلسفة تدعو إلى السعادة والفرح فقد عارض مفاهيم كثيرة في الأديان مثل فكرة التوبة الخاضعة للخوف من العقاب بعدما يئس رجال الدين اليهود من إعادة سبينوزا لاحتضانهم مرة أخرى أصدر الكنيس اليهودي أمر الحرمان الكنسي والطرد من المجتمع اليهودي، المسمى بـ”חרם” أو “herem” وكان كالآتي “اللعنة عليه، اللعنة عليه في الصباح والمساء، اللعنة عليه في دخوله وخروجه، اللعنة عليه إلى الأبد، فليمسح اسمه من هذا العالم، وليجعل الإله منه معزولا عن اليهود، ولينزل عليه كل اللعنات.. وأنتم الذين تعلمون الإله وتعرفونه، اعلموا أنه يحرم عليكم أيّ علاقة به، لا كتابية ولا كلامية، لا يقدم له أحد خدمة ولا يقترب منه أحد أكثر من أربعة أمتار، لا يجالسه ولا يكون معه تحت نفس السقيفة، ولا أحد يقرأ كتاباته”. وقد ظن البعض إن سبينوزا قد اعتنق المسيحية آنذاك بعد طرده من طائفته اليهودية، لكنه حتى وإن اعتنقها بشكل من الأشكال فقد ظل مرفوضا بشكل أكثر قسوة من رجال الدين المسيحيين أيضا متهمين إياه بالكفر والإلحاد؛ مع المحاولات المستمرة من قبل الجانب اليهودي لاغتياله حتى لحظة وفاته عام 1677. فما الذي جعل من سبينوزا منبوذا ومُطاردا من رجال الدين أجمعين وقتها؟ سبينوزا كان ديكارتي المنهج أكثر من ديكارت نفسه لأنه طبق منهجه بشكل جذري وصحيح على كل ما كان يخشى ديكارت الخوض فيه تحديدا الدين، وكان مُغرما باليقين الرياضي الصارم وقد طبقه كذلك بشكل واضح في كتابه “علم الأخلاق” من خلال رصد قضايا عن الله والإنسان ثم البرهنة عليها بشكل علمي. في عصر ما قبل التنوير في أوروبا كانت هناك اجتهادات من المُفكرين والفلاسفة ولكنها ظلت خاضعة في فلك الدين ورجاله وكان من المستحيل خروج أحدهم عن هذه الدائرة، إلا سبينوزا الذي وضع نقطة وبدأ من جديد بشكل جريء لم يسبقه أحد فيه. عكف سبينوزا على دراسة التوراة “العهد القديم” وإخضاعه للمنهج التاريخي ثم العهد الجديد وبقي يُفند الأحداث الواقعية من الأحداث الخرافية بشكل منطقي غير خاضع لأيّ تأثيرات عاطفية في محاولة منه للتخلص من الأصولية الدينية، التي كانت خاضعة لها أوروبا وكان الأوروبيون يتقاتلون معا على مفهوم الدين الحق. كانت أفكار سبينوزا عن الله والدين أفكار متقدمة على عصره بشكل جعل الناس وقتها يسعون إلى إهدار دمه والتخلص منه، لا لشيء سوى لأنهم لم يستطيعوا فهمه أبدا، وحتى هو في مقدمات كتبه كان دائم التنويه أن عامة الناس لن يفهموه لأنهم يخضعون للأحكام المسبقة العاطفية. يرى سبينوزا أن فكرة وجود الإله هي فكرة مُطلقة لا جدال عليها، فالله هو الطبيعة وبه وإليه يبدأ وينتهي أصل الأشياء، وقد برر تعلق الناس بوجود إله إلى ميلهم الطبيعي إليه باعتباره القوة الخارقة التي تقف دائما بجانب الإنسان؛ وقد تحدث إلى الناس عن طبيعة إيمانهم، فقال إنهم يعتقدون أنفسهم أحرارا نظرا لوعيهم برغباتهم وأفعالهم الإرادية لكنهم لا يفكرون ولو في الحلم في الأسباب التي تجعلهم يرغبون ويريدون، فمن وجهة نظره أن الناس يتصرفون فقط لغاية معينة تتلخص في المصالح الشخصية التي تتحقق من الطبيعة من حولهم. ◙ سبينوزا كان ديكارتي المنهج أكثر من ديكارت نفسه لأنه طبق منهجه بشكل جذري سبينوزا تكلم أيضا عن الإيمان بشكل مختلف وقتها فقال إن العالم من حول الإنسان يتكون من الملايين من الأشياء الشمس والأشجار والكواكب والأقمار ومن الطبيعي أن يسعى الناس إلى فهم أسباب وجود هذه الأشياء ولأنهم لم يصنعوا منها أيّ شيء فبالتالي أرجعوا صنعها لشخص آخر “الله” ومن هنا جاءت فكرة العبادة والإيمان بطرق مختلفة. ومن الأفكار التي أثارت جدلا وقتها على سبينوزا مناقشته لفكرة الجهل وعلاقته بالإيمان من خلال استخدام أمثلة حياتية مثل إرجاع كل شيء لا يفهمه الناس إلى “مشيئة الله”، الطبيعة تساعد الإنسان على العيش لأنها مشيئة الله، الطبيعة تدمر الإنسان من خلال الزلازل والبراكين لأن هذا غضب من الله، وكل الأمور التي لا يستطيع الناس البحث في أسبابها يرجعونها إلى أن أحكام الله متعالية على فهم الإنسان فقد لخص كل هذا بالجهل، الجهل السعيد الذي يجعل الإنسان لا يشك وبالتالي لا يسأل ويظل قابعا في دائرته. كان سبينوزا يسعى إلى دعوة الناس إلى التفكير العقلاني الذي يؤمن أن لكل شيء سببا، كذلك دعوتهم للتخلي عن فكرة الدين الحق فقال “ما أنت، يا من تظن أن عقيدتك خير عقيدة، فكيف عرفت ذلك؟ هل اطلعت على كل العقائد، الشرقية منها والغربية، ما ظهر وما سيظهر؟ أليس لكل صاحب عقيدة أخرى نفس الحق في أن ينظر إلى عقيدته على أنها أفضل العقائد”. فقد كان هدفه الأساسي هو وقف حدة الصراعات الدينية وزرع أفكار أكثر عمقا عن الإيمان بغض النظر عن كون الإنسان له دين أم لا. أوجد سبينوزا فكرة مُغايرة ودافئة عن ممارسة الشعائر الدينية وقراءة الكتب المقدسة فقد كان في ذلك الوقت وحتى يومنا هذا تعتبر الشعائر والكتب المقدسة مفتاح القرب من الله والفوز بفردوسه، لكنه كان يرى إذا كان شخص ما جاهلا تماما بالكتب المقدسة ولديه مع ذلك آراء صحية ونهج سليم في الحياة، فإنه قطعا يكون مباركا، وتكون فيه روح الله بحق؛ متجاوزا بذلك فكرة احتكار الناس لوجود الله فقط في الأديان. كذلك هاجم سبينوزا فكرة “المعجزات” في الأديان ودورها في قيادة الناس بشكل أعمى، فيكفي أن تبرهن على أمر ما بحدوث معجزة أو بكلمة من رجل دين كي يصدق الناس بشكل قاطع ولا يتناقشون أو يسألون أو حتى يحاولون الفهم. وبما أن فلسفة سبينوزا هي أساسا فلسفة تدعو إلى السعادة والفرح فقد عارض مفاهيم كثيرة في الأديان مثل فكرة التوبة الخاضعة للخوف من العقاب، فكان يؤكد أن الرغبة في الفضيلة لا بد أن تكون من أجل الفضيلة نفسها لا من أجل انتظار ثواب أو تجنب عقاب، كذلك فكرة الزهد واحتقار الحياة والنفس كانت تمثل له أشياء سلبية لأنه من المفترض أن يحب الإنسان الحياة ويسعى إلى سعادته من خلالها. سبينوزا كان يرى أن الإله موجود، فهناك إله موجود خيّر ورحيم على نحو مطلق أي أنه بعبارة أخرى نموذج للحياة الحقة، وأن هذا الإله هو واحد وعبادته وطاعته لا يجب أن تكون إلا في العدل والإحسان للآخرين ولا يجب أن ينتج عن هذه العبادة سواء كانت في إطار دين أو لا، أي زعزعة لاستقرار المجتمع الإنساني. وعلى الرغم من رؤية باروخ سبينوزا لصلاح الإنسان التقي بعيدا عن الأديان إلا أنه ظهرت كتابات من رجال دين آنذاك تكفّر من يؤمنون بالله وليس لهم دين بل كانوا يحرضون العامة عليه بعبارة “هذا رجل ليس في صدره دين” أي بعبارة أخرى دمه حلال. ◙ سبينوزا عكف على دراسة التوراة "العهد القديم" وإخضاعه للمنهج التاريخي ثم العهد الجديد وبقي يُفند الأحداث الواقعية من الأحداث الخرافية بشكل منطقي لم تكن أفكار باروخ سبينوزا قاصرة فقط على تغيير الخطاب الديني أو تبديل النظرة العاطفية له إلى عقلانية، لكنه كان يُدرك أن الوضع في أوروبا مشترك بين الدين والسياسة، فهيمنة رجال الدين على الحكام أو بمعنى آخر تحالفهم معا أنتج الجهل والقضاء على الجهل يعني القضاء على سلطة نفوذ رجال الدين وبالتالي تحرر السلطة السياسية منها. كان سبينوزا يميل إلى الفكر الليبرالي الذي يُعنى بتحرير الفرد من هيمنة المؤسسات الدينية وظل يشرح بشكل تاريخي النظم السياسية التي انهارت بسبب خلطها للسياسة بالدين، فكان من الطبيعي أن يصل إلى فكرة سيادة العلمانية وفصل الدين عن الدولة لأن في فصلهما تحقيقا لحرية الفكر والاعتقاد وكذلك حق التفلسف. كذلك وصل سبينوزا إلى شكل الحكم الجديد وهو مراقبة الدولة للدين أو بمعنى أدق لرجال الدين حتى لا يتحولوا إلى سلطة يمكنها التأثير على سلامة الدولة والناس لذلك ناصر فكرة العقد الاجتماعي ومشاركة الناس في الحكم وإدلائهم برأيهم حتى يصبح المجتمع السياسي مجتمعا آدميا لا تحركه وتحتكره سلطة دينية بعينها لكن تحركه المصلحة العامة للإنسانية وعدم الصراع. سبينوزا كان علامة فارقة في تاريخ التنوير والفلسفة لم يدركها الناس إلا بعد موته، فعلى الرغم من موته صغير السن (45 عاما) وقلة مؤلفاته التي يشتهر فيها (علم الأخلاق – ومقالة في اللاهوت والسياسة) إلا أنه صاحب بصمة قوية وتأثير جبار على أيّ تنويري جاء من بعده، لأنه لم يخش الخوض في تصحيح الأمور للناس أو التأويل والنقد الديني في وقت كانت فيه الكلمة لها حساب الروح وسفك الدماء.
مشاركة :