دعونا نسمّم أنفسنا بالحِبر طالما نفتقرُ إلى رحيقِ الآلهة كان الروائي الفرنسي جوستاف فلوبير يردد دائمًا: «لا أحب أن يهتم القارئ بشخصي المتواضع الذي لا أهمية له. الشيء المهم هو أعمالي الأدبية لا غير». هكذا يرى الكتّاب العظماء أنفسهم والتافهون يمشون ويتصرفون كالطواويس ويثيرون حولهم غبارًا مزيفًا يتطاير مع الرياح ولا يتركون أي بصمة بعد أن يرحلوا. كان يسمى كاتب الكتّاب، الذي غيّر مسار الرواية الفرنسية من الرومانطيقية إلى الواقعية وهو من بين الثلاثة الكبار: ستندال، بلزاك، فلوبير بالإضافة إلى إميل زولا وغي دوموباسان وآخرون. يقولون أن فلوبير كان مصابًا بانفصام في الشخصية فقد كان يعتقد أن على الكاتب أن يختفي كليًا وراء مؤلفاته، فالكاتب بالنسبة إليه شخص عابر وأعماله وحدها هي التي تبقى بعد أفوله وهو بدون أعماله لا شيء. كان ينظر إلى الكاتب بأنه إنسان عادي لا يختلف عن غيره وله شخصية أخرى لها عالمها الحميمي الداخلي الذي لا يضيء ويتوهج إلا عندما يختلي بنفسه ليبدع، وينثر جنونه الخاص على الورق. انه انفصام عادي في شخصية معظم المبدعين. رحل فلوبير وما زالت روايته «مدام بوفاري» التي نشرها عام 1857م حيّة حتى يومنا هذا واعتبرت من أروع الروايات ضمن الأدب الواقعي على الرغم من أن بعض النقاد يرى بأن رواية «التربية العاطفية» هي أهم رواياته لكن رواية «مدام بوفاري» نالت شهرة كبيرة. درس فلوبير الحقوق لكن الأدب، هذا الكائن السحري، ابعده عن مهنته مثلما أبعد الروائي المصري يوسف ادريس عن مهنته كطبيب نفسي وكثيرون غيره. الكلمة هي لعنة الجن كما وصفها الأولون، تأسرك وتسرقك من كل شيء حتى من عائلتك وأحبابك وربما تدخلك إلى عالم يشبه الجنون. فلوبير مثلاً أصيب بمرض عصبي جعله يعتزل الحياة فترة طويلة. كان فلوبير يدقق كثيرًا في ما يكتبه ولهذا السبب لم يكتب إلا خمس أو ست روايات طوال حياته ولكن كل منها شكّلت حدثًا مهمًّا في مسيرة وتاريخ الأدب الفرنسي. كان يهمه الكيف وليس الكم على عكس الكاتب الفرنسي العملاق بلزاك الذي كتب حوالي ثمانين رواية ولُقب باسم وحش الرواية الفرنسية وهو بذلك ظاهرة لا تتكرر. الغريب ان رائد الفلسفة الوجودية جان بول سارتر اعتبر فلوبير شخصًا ابلها تحوّل إلى عبقري بسبب مرض العصاب الذي أصيب به مستخدمًا نظريات علم النفس في تحليل شخصيته وأعماله مطعًمة بفلسفته السارترية الوجودية، وصدر كتابه عن فلوبير في ثلاثة أجزاء تبلغ مجموعة صفحاتها حوالي ثلاثة آلاف صفحة. واعتبر كتابًا فضائحيًا لم يستطع اكماله. رحل فلوبير عام 1880م عن أزمة قلبية وما زال اسمه متوهجًا في مكتبات المثقفين وعشّاق القراءة وفي الجامعات. العظماء لا يرحلون ولا يغيبون. *** إضاءة لا تقل للقلبِ اصمتْ دعهُ يراقصُ الورد َ يَستحمُّ برذاذِ العِشقِ المُتطاير فالعمرُ مُجرد ضَربةَ حَظ Alqaed2@gmail.com
مشاركة :