تتابع “العرب” في مجموعة حوارات ملف “مجلة الجديد” الأخير حول “المرأة الناقدة والمفكرة”، حيث تناولت المجلة في عددها الـ56 الصادر في الأول من سبتمبر الجاري، ضمن ملفها الأساسي، تقصي دور المرأة في التأسيس لنقد أدبي وفكري، معاصر ومرتبط بالظواهر الأدبية والفكرية والجمالية التي أنتجتها مشاركة المرأة في الأدب العربي المعاصر، وكرّسها منجزها الأدبي والنقدي. وفي هذا الحوار مع الناقدة والباحثة في قضايا النقد الأدبي الحديث، الحاصلة على شهادة الدكتوراه في اللغة العربية وآدابها العمانية آمنة الربيع نستكمل بعض جوانب هذا الملف المهم من خلال مجموعة محاور أساسية مرتبطة به. تبدأ الناقدة العمانية آمنة الربيع ملاحظاتها حول ملف مجلة الجديد المخصص للمرأة الناقدة والمفكرة، بقولها “إن الملف بوجه عام يدفعني إلى التسليم بفكرة غياب المرأة المفكرة، وهذا منطلق قد يؤدي بنا إلى الوقوع في فخ تكرار الثنائيات التقليدية المنطلقة من مفاهيم الذكورة والأنوثة، أو الشرق والغرب، أو المجتمع وعلاقاته السلطوية المعلنة أو المضمرة! وحتى إذا أمعنا النظر، فالمجتمع العربي كُّلٌ صغير من مجتمع دولي وعالمي كبير، يسهل معه الانجرار إلى قراءة واقعنا في ظل مرايا الغرب المتقدم، لاسيما، ما يخص الذات الأنثوية المبدعة”. وتضيف “بالتدقيق أيضا، نجد أن مجتمعات الخليج العربي هي كذلك، كُلٌ صغير من المجتمع العربي الكبير بكياناته السياسية المتناحرة. ولذا يؤشر البحث إلى أن أسباب ندرة المرأة المفكرة تحتاج بدورها إلى تفكيك: فهل المرأة المفكرة هي المنتجة في علوم الفيزياء والرياضيات والكيمياء؟ أو هل هي الفيلسوفة؟ أو هل هي المبدعة والمنتجة في مجالات النقد والسرد والثقافة في مجتمعات في ظاهرها غير أبوية؟”. مرجعية الاستغلال ترى آمنة الربيع أن أسباب ندرة وجود المرأة المفكرة تتحكم بها عدة عوامل اقتصادية واجتماعية وذاتية، بالإضافة إلى عوامل تستقطب غالبا الأفكار الإمبريالية الجاهزة فتعممها دون تعمق في قراءة السياق الذي تسعى إلى تطبيقها عليه. لا تقلل الربيع من الارتباط بين شبه الغياب للمرأة المفكرة وبين ما يعانيه المجتمع العربي من تمييز جنسي، وترى فيه تحيّزا عانى منه الغرب كذلك، وتدلل عليه بأطروحات النسوية. تقول الربيع “لا أريد أن أتجاهل أن فهم حركة نضال المرأة لنيل استقلالها المادي وحريتها الفكرية في مجتمعاتنا العربية لم يتحقق تحققا شاملا، فالمدهش أن المرأة في بعض الدول العربية لا تزال تعاني من الأمية، وتتعرض لسلطة القهر الذكوري والتهميش، كما يتم استغلال إنسانيتها في مصالح يستفيد منها الرجل من الدرجة الأولى (الأب والأخ والابن) ومرجعية هذا الاستغلال تتداخل فيها خطابات عديدة؛ اجتماعية ودينية. ومن جهة أخرى، دفع هذا التمييز إلى ظهور كتابات سردية ودراسات فكرية بحثت في أسباب هذا التحيز عبر إخضاع المقولات الأبوية للجدل والنقاش والتحليل”. وتتساءل الربيع كيف يمكن أن نمنع أو نقصي الحضور المركزي للثقافة الذكورية في مجتمعات مازالت تحتكم في تسيير تفاصيل حياتها وفقا لمركبات نفسية وثقافية متداخلة ومعقدة. وتضيف في الشأن نفسه “المجتمعات العربية ليست حرة تماما، ولا متحضرة تماما، ولا ديمقراطية تماما. قد لا يرحب بعضهم بهذا التعميم فيراه فجا، لكني لا أزعم أنني سأصل إلى خلاصة ما بشأن هذا الإرث القهري. هناك دراسة للناقدة ضياء الكعبي تناقش فيها ما علق بصورة المرأة في السرد العربي القديم من دونية. وعلى الجهة الأخرى وبنوع من الإنصاف علينا ألا نضع البيض كله في سلة واحدة! من منح الرجل هذه السلطة؟ إنها المؤسسات المهيمنة، وقد لاقت هذه الثقافة رفضا وتحديا من قبل بعض التيارات النسوية وغير النسوية. مع تحفظي على هذا التيار الراديكالي المتشدد”. توضح الربيع أن السؤال عن عدم نجاح المرأة العربية في رسم ملامح المساواة في المشهد الفكري غير دقيق، وترى أنه يجب أن يحدد فهم معنى المساواة. تقول “لدينا اليوم مفكرات يشتغلن على النتاج النقدي، وأخريات يناضلن في مساحات مختلفة، لكن الأضواء غير مسلطة عليهن، وهذا أمر مؤسف، إذ تتحكم في ذلك استراتيجيات واقتصاديات معينة وبعض التميز. ومن ناحية أخرى إن النساء المفكرات والمبدعات لا يكترثن بالعمل ضمن ‘برلمان نسائي‘ مستوحية هنا مسرحية أرستوفانيس، أو يعملن ضمن شبكات خاصة بالنساء الباحثات في قضايا ثقافية وجندرية وملفات الأنثربولوجيا، إلى غير ذلك من دراسة أوضاع المغتصبات والسجينات وأسر الشهيدات”. وتتابع الناقدة العمانية “أرجو ألاّ أفهم أنني مع دعاوى التحيز أو الانفصال والعمل ضمن دوائر منغلقة على النوع، مفهوم البرلمان ينطلق من اشتغال ضمن مجموعات منفتحة على كل العالم يضم خليطا من الباحثات والباحثين في قضايا مشتركة، يجري عبرها تبادل الخبرات ومعرفة ماذا يجري على الشط الآخر، لأن مشكلات النساء وقضاياهن متشابهة إلى حد كبير، لكن الاشتغال البحثي المؤسساتي غير متوفر ومتذبذب لذلك تضيع علينا الفرص الجادة. وأيضا من المعوقات غياب الدعم، وعلى الرغم من توفر السوشيال ميديا إلا أن الجهود التي أتابعها من هنا وهناك أجدها تقتصر على دوائر صغيرة كترؤس لبعض إدارات مواقع المجلات”. وتؤكد الربيع على أن هناك تراجعا في جميع نواحي الحياة على مستوى التعليم والطموح والتفكير في المشاريع المستقبلية وفي الإبداع إلا من استثناءات هنا وهناك. تقول “البنى الفوقية يمكنها أن تؤدي وظيفة سلطوية قهرية في مجالات الحياة المختلفة، ولكن فهمنا للمشروع النقدي أو الفكري الإبداعي غير قابل للتعميم. فكما أسلفت آنفا تحديد المفاهيم والمصطلحات مهم. لدينا نساء باحثات لديهن مشروعهن النقدي والتنظيري في مجالات العلوم الإنسانية. والظاهر لدي أننا ننظر إلى اشتغالنا النقدي/والفكري منطلقين في الغالب من مرجعة غربية شعاراتية أو مؤسساتية، وهو أمر اعتدناه، لكن تجاوزه بات ضرورة لفهم الموقع الذي نقف عليه، هل من المعقول في هذا العصر أن نرجع للمربع الأول فيتصدر التكفير والإرهاب والعنف أحاديثنا ومشاريعنا الثقافية؟ هذا نكوص أو هزيمة للذات الحرة”. فهم حركة نضال المرأة لنيل استقلالها المادي وحريتها الفكرية في مجتمعاتنا العربية لم يتحقق تحققا شاملا وعن حجم الإنتاج الفكري والنقدي للمرأة العربية تقول الربيع “لست متأكدة من وجود دراسة إحصائية شاملة تبين هذا النتاج، لأن الجهود ذاتية ومبعثرة هنا أو هناك. وانطلاقا من الوسط الذي أتحرك فيه ولا يشمل بالضرورة كل الوطن العربي، أرى النتاج قليلا جدا مقارنة بنتاج الرجل. المُخجل هنا أن تفكر المرأة بعقل الرجل! هي لا تكتفي بتطبيق شعارات دخيلة عليها بل تزيد من الطين بلة فتكتب مثلا بلسان الرجل (العقل) وكأنها هنا تؤكد أطروحاته الذكورية الحادة”. وتضيف “في فيلم ‘On the basis of sex‘ الذي تناول السيرة الذاتية لحياة روثبادر جينسبرج كأول امرأة تصل لمنصب قاضية في الولايات المتحدة الأميركية، تسأل زوجها ‘أي ثوب يجعلني أبدو أكثر مثل رجل هارفارد؟‘، فالملاحظة هنا، أن نضال المرأة بوجه عام وفي كل العالم غالبا ما ينطلق من تمثيل لتصور جاهز ومسبق لمنطلقات ذكورية، وإذا ظل الوضع كذلك فهذا لن يسهم في تقديم إضافة إلى نتاج المرأة إنما سيكرس للأنماط الثقافية المكررة”. وفي سؤال عن أهمية المُنجز النقدي والفكري النسائي في السنوات الأخيرة، تجيب الربيع “إجابة هذا السؤال تتصل بإشكالية غياب المراكز الاستراتيجية المعنية بتتبع وفحص هذا المنجز، وتقدير أهميته وقوته في بناء الإنسان وتأهيل المجتمعات للتحضر والصحة والمدنية. والنماذج المتوفرة هي قليلة، وتعمل من هاجس ذاتي، قد تنجح بعض المشاريع المشتركة، لكن خراجها لا يصل إلى الوطن العربي كله، فعلى سبيل المثال في المشرق والمغرب العربي طبقة المتعلمين والمثقفين من هي الناقدة الراحلة نهاد صليحة، لأن كتبها تصل إلى هناك، بينما لا تصل كتب الباحثات في المغرب العربي إلى المشرق بيسر. ومؤلفات أمين معلوف تصل إلينا في حين هناك القليل من يعرفون بوجود آسيا جبار”.
مشاركة :