الرواية، وهي «رحلة نيلز هولغرشون الرائعة عبر السويد»، من تأليف الروائية السويدية الشهيرة سلمى لاغرلوف، والرواية كانت في الاساس لاطفال المدارس العامة من سن التاسعة إلى سن الحادية عشرة، إلا أن الرواية قد تخطت حدود المدرسة و حدود العمر، وهذا ما يجعل من هذه الرواية عملاً أدبياً مميزاً وفريداً من نوعه. دخلت سلمى لاغرلوف عالم الأدب و الرواية بعد عشر سنوات من مهنة التعليم (1885-1895)، وكان أول رواية لها هي «ملحمة غوستا برلينغ» عام 1891، وكانت هذه الرواية فاتحة النهضة الروماطيقية في الأدب السويدي. أوكلت اليها الرابطة الوطنية للمعلمين في السويد عام 1902 مهمة تأليف كتاب مكمل لمنهج الجغرافيا لطلبة المدارس العامة من سن التاسعة إلى سن الحادية عشرة، لأن الكتاب الرسمي في المنهج المدرسي جاف ولا ينجذب التلميذ إليه، وهذا لا يساهم في استيعاب مادة الجغرافيا بالشكل المرجو.. قبلت المهمة برحابة صدر، خاصة وأن لها خبرة في وظيفة التدريس وتعرف نفسية الطلبة وتعي جيداً طبيعة المواد ضمن المنهج التعليمي، إعتبرت التكليف مهمة وطنية وثقافية وفرصة أدبية للفكر والإبداع، لا بد من إعطائه حقه من العمل الجاد وبأمانة علمية وأدبية، فالمهمة وطنية وتربوية و معرفية، تقتضي ديباجة لغوية وأدبية تتسم بالإبداع وتتخطى المألوف، خاصة وأن مادة الجغرافيا تميل أكثر إلى الوصف التقريري عن الوصف الأدبي، فتحفزت مَلَكَةُ الابداع الأدبي عندها، بما يتخطى حدود استيعاب وتوقع الرابطة الوطنية للمعلمين، بأن المهمة الموكلة إليها هي مدخل إلى عمل أدبي - تعليمي - تربوي - ثقافي، ليس فقط للتلاميذ بل للآباء والأمهات ولجميع الأعمار، وأن منتجاً أدبياً من هذا النوع، لا بد من حياكته لغوياً وأدبياً وخيالياً، ليصبح أيقونة الأمة السويدية، مثل إلياذة الإغريق و مهابهاراتا الهند وألف ليلة وليلة العرب وشاهنامة الفرس، فخميرة الفكر المتحفز لديها قد ألهبت حماسها الأدبي والوطني لاستزراع ثمرة أدبية بنكهة الملحمة، فالمهمة تخطت كونها مهمة رسمية، فقد أضافت سلمى لاغرلوف إلى المهمة التربوية الرسمية مهمة أدبية وطنية، وهذه الأضافة تقتضي عملاً من نوع آخر، عمل، الجغرافيا التعليمية مادتها الخام، ومن هذه المادة ومع إضافات من بهارات إرث الأمة السويدية ومن هبة الطبيعة، سيكون المنتج نجمة أدبية ساطعة خالدة في سماء الثقافة. مهمة، مع هذه الاضافة النوعية، أضحت غير تقليدية ولا تخص المدرسة وحدها، بل تخص الامة السويدية والثقافة ببعدها الإنساني.. انكبت على نفسها تدرس، مكتبياً وميدانياً، سطوح جغرافية السويد، من سهول ووديان وجبال بقممها المكللة بصفاء الثلوج والغابات والانهار والبحيرات وما يحيط السويد من بحار، ودرست البيئة الطبيعية على مدار الفصول الاربعة، درست أجواء البرودة القاسية منها والناعمة، وعرجت من الجغرافيا والطبيعة إلى دراسة الإنسانيات الأولية من القصص الملحمية والاسطورية التي يتناولها الانسان السويدي، شفاهة وكتابة، من جيل إلى جيل، ودرست عالم الحيوان و الطير دراسة مستفيضة تمس جوانب الحاجة الطبيعية والسلوك والقدر الممكن من بعض من علم نفس هذا العالم الحي الناطق دون لغة الكلام... درست وطنها السويد، إنساناً وحيواناً وطيراً ونباتاً وأرضاً.. فهذا الجهد بحد ذاته يستحق أن يوصف بالجهد الملحمي (البطولي).. فعلاً، من جد وجد ومن زرع حصد، بعد ثلاث سنوات من البحث الأكاديمي والميداني أكملت سلمى لاغرلوف المهمة الموكلة إليها، وفي عام 1906 وجدت الأمة السويدية أمامها وفي حوزتها حصاد الزرع الذي أنبتته الآنسة سلمى لاغرلوف، فكان الحصاد كتاب «رحلة نيلز هولغرشون الرائعة عبر السويد». الرواية تتحدث عن بطل، ولم يكن بذاك البطل التقليدي، بل كان بطلاً بمعنى الشخصية الرئيسية في الرواية، وبطبيعة الحال فإن للروايات أبطالها. بطلنا في هذه الرواية ولد كامل الاسم وهو نيلز هولغرشون... كان البطل ولداً عمره 14 سنة، كسولاً جداً، لا يصلح لأي شيء وكانت سعادته الأكل والنوم، وأحب شيء لديه هو الشغب والمشاغبة والتسبب في الضرر والأذى، تنطلق الرواية من هذه الكلمات التي يستطيع القارئ أن يستشف الجانب التربوي والتعليمي الذي رسمت خطوطها التفصيلية مؤلفة الكتاب، والذي هو بمثابة مشروع تربوي تعليمي، أفضل أن لا أسترسل أكثر في التعريف بمحتوى الكتاب، أملاً مني بأن هذا القدر من التعريف بالمحتوى والأهمية الأدبية التي عبرت عنها أقلام الادباء والأكاديميين سوف تحفز فضول قارئ المقال على قراءة الكتاب. العنوان الأصلي السويدي للكتاب هو «رحلة نيلز هولغرشون الرائعة عبر السويد»... ولكن الترجمة الانجليزية والعربية حورت «رحلة» إلى «مغامرة»، مع إلغاء عبارة «عبر السويد»، وهذا في اعتقادي تصرف لا يتسق مع الهدف الذي من أجله تم تأليف الكتاب.. لكن الترجمة الفرنسية التزمت بالعنوان الاصلي.. هذا التصرف في ترجمة عنوان الكتاب لا يوحي بالمحتوى الحقيقي للكتاب.. بمجرد أن نشر الكتاب وانتشر في المكتبات والمدارس، واطلع عليه أولاً أعضاء الرابطة الوطنية للمعلمين، ومن بعد المعلمون والأساتذة، ومن بعد بقية القراء من العامة والأدباء والكُتَّابِ في الصحف والمجلات، تبين للجميع أنهم أمام عمل أدبي عظيم يتخطى حدود المدسة، ولا حدود له من العمر، فهو موضع إعجاب جميع الأعمار، من سن التاسعة إلى سن التاسعة والتسعين وما بعد. تهافت نقاد الفكر والأدب والثقافة في تشخيص هذا الكتاب الذي انتشر في وقت قياسي في جميع الدول الاسكندنافية ومن بعد في ألمانيا وبقية دول أوروبا، ومن ثم العالم، نكاد أن نجزم بأن الكتاب قد ترجم إلى جميع لغات الشعوب، وقد اتخذ الفن التمثيلي - السينما والمسرح والتلفاز - من هذا العمل الأدبي مادة دسمة للتعبير عنه تمثيلياً.. نعرض بعضاً مقتضباً من آراء النقاد حتى ترتسم لنا صورة الكتاب أكثر، أحد النقاد خلص إلى أن أمم العالم كلها لا تملك كتاباً من هذا النوع، وناقد آخر تحمس للكتاب من الشعور الوطني عندما قال بأن هناك مصداقية سويدية عمبقة مكنونة في الرواية وأنها ملك لنا وأنها جزء منا، ومن النقاد من رأى في الرواية خلقاً جديداً لجغرافية السويد، وقد أجمل النقاد على أن الرواية عمل كلاسيكي، وتحفة أدبية رائعة، فهي رواية عظيمة. فإذا كان الاغريق يفتخرون بالإلياذة (هوميروس)، والهنود بالمهابهاراتا، والفرس بالشاهنامة، والعرب بـألف ليلة وليلة، والانجليز بمسرحيات شيكسبير، فإن الشعب السويدي يفتخر بكتاب «رحلة نيلز هولغرشوف الرائعة عبر السويد»، مع فارق نوع الإخراج الأدبي، وهو أن جميع تلك الكتب الخالدة هي للكبار ولا يمكن أن يهضمها ويستوعبها الصغار، بينما كتاب سلمى لاغرلوف لجميع الأعمار، من سن التاسعة إلى التاسعة والتسعين وما بعد... هذا الكتاب قد ارتقى أدبياً وفكرياً وإبداعياً من كتاب للأطفال إلى ملحمة وطنية خالدة.. ملحمة نابعة من روح الطفولة، تلك الروح التي يشتاق إلى عظمة براءتها كل الكبار.. وقد حازت الأديبة السويدية الكبيرة سلمى لاغرلوف علـي جائزة نوبل في الأدب عام 1909، إعجاباً بالمثالية الراقية والخيال الحي والنظرة الروحية التي تميز كتاباتها.. وبعد حصولها على جائزة نوبل تم آختيارها وتعيينها عام 1914 عضو في الاكاديمية التي تمنح جوائز نوبل.. كل الكتب، بطبيعة الحال، للقراءة، ولكن ليست كل الكتب تستحق القراءة، ولكن هناك قلة من الكتب واجبة القراءة، وكتاب «رحلة نيلز هولغرشون الرائعة عبر السويد» بين تلك الكتب التي من الواجب قراءته.
مشاركة :