الهجرة النبوية.. نصر وتمكين (2)

  • 9/28/2019
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

مكث أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مدة من الزمن في الحبشة ثم عادوا إلى مكة، فاشتد اضطهاد المشركين لهم، فكانت الهجرة الثانية للحبشة، وذلك لنُصرة الدين، واتباع الرسول الأمين (صلى الله عليه وسلم)، فهل نصرنا نحن دين الله في عقيدتنا وعبادتنا وأخلاقنا وتعاملاتنا؟ يقول تعالى: «ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز * الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور»، (الحج: 40-41)، لقد بذل أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) النفس والنفيس في سبيل نصرته، والزود عنه، وإبلاغ رسالته، فرضي الله عنهم ورضوا عنه، ووصفهم الرسول بالنجوم التي تهدي الحيارى في ظُلمات البر والبحر، فهم كذلك هُداة مهتدون، فقال صلى الله عليه وسلم: أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم. ونهى عن سبهم أو إيذائهم بالقول والفعل، أو تجريحهم أو التعرض لهم بأي نقيصة، فهم أعلام الهدى، ونور الدجى، وهم خير القرون كما قال صلى الله عليه وسلم: خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم. فقال صلى الله عليه وسلم: لا تسبوا أصحابي، فلو أنفق أحدكم مثل أُحد ذهبا ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نصيفه. وهم من أنفقوا مالهم وجهدهم وأفنوا حياتهم نصرة لدين لله وتأييدا ونصرا لرسوله، فقدموا حكم الله ورسوله على ما يشتهون، وطاعة الله ورسوله على طاعتهم أنفسهم وأهليهم، فتذوقوا حلاوة الإيمان بقلوبهم، حتى لامست شغاف قلوبهم، فأصبح كل ما يُلاقونه من متاعب وصعاب وإيذاء واضطهاد في سبيل الإيمان هينا، حتى أصبح كل مبتغاهم رضا الله تعالى، ونُصرة رسوله، ولقد بشرهم الله تعالى في القرآن بالجنة والرضوان والنعيم المقيم، وذلك هو الفوز العظيم، فقال تعالى: «الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون * يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم * خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم»، (التوبة:20-22). وحينما نتذكر بعضا مما لاقوه في سبيل الإيمان، ونصرة الإسلام، يشيب من هوله الولدان، وتقشعر منه الأبدان، فصبروا واحتسبوا ذلك كله عند ربهم، فكان النصر حليفهم، والعز والشرف غايتهم، فسادوا الدنيا، وفازوا في الآخرة، وكان إذا اشتكى واحد منهم لرسول الله شدة ما يُلاقونه من إيذاء وتعذيب يُبشرهم صلى الله عليه وسلم بنصر قريب، فتمسح هذه البشرى كل أسى وتعذيب، فهذا خباب بن الأرت يشتكي للرسول (صلى الله عليه وسلم) مما كانت تعذبه به سيدته التي تملكه، وكان يعمل حدادا، وكانت تأتي بالحديد بعدما احمر من شدة النار فتكويه على رأسه حتى يكفر بما أُنزل على محمد، ويُفارق دينه، فيأبى إلا الإيمان بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا ورسولا، حقا إنهم رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه. فلما اشتد بخباب التعذيب أتى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو متوسد بُرده في ظل الكعبة، فقال له: ألا تستنصر لنا يا رسول الله؟ ألا تدعو الله لنا؟ فقال له صلى الله عليه وسلم: إنه كان من قبلكم يُؤتى بالرجل فيوضع في حفرة، ثم يُنشر بمنشار ما بين لحمه وعظمه، ما يصرفه عن دينه، والذي نفسي بيده ليُتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت ما يخاف إلا الله والذئب على الغنم، ولكنكم قوم تستعجلون. لقد غرس الرسول (صلى الله عليه وسلم) الثقة بنصر الله في قلوب أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين، وبشرهم بانتشار الدين وبلوغه ما بلغ الليل والنهار، فأصبحوا على يقين بالنصر والتمكين، وأن الله ناصر دينه ومؤيد رسوله، فتمسكوا بدينهم، وهانت عليهم الدنيا في سبيل نصرة الدين، فكان لهم النصر والتمكين، وانقلبوا من رعاة حفاة عُراة مستضعفين إلى قادة وسادة وعظماء، دانت لهم الدنيا بأسرها، فجعلوها وسيلة للآخرة، ولم يُفتتنوا بها، لأنهم تربوا في مدرسة النبوة، فأقاموا دولة الإيمان التي يقوم دستورها على العدل والمساواة، وأنهوا دولة الظلم والاضطهاد والاستبداد، والتمييز بين العباد، فلا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى والعمل الصالح، وحققوا قوله تعالى: «إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير»، (الحجرات:13)، ونشروا الأمن والسلام لكل بني الإنسان، فازدهرت بهم الحياة، وأعادوا للإنسان كل الإنسان كرامته وآدميته. حقا إنهم نجوم يُهتدى بهم، كما أخبر صلى الله عليه وسلم كفار مكة ما كان عندهم من بقية خير ومروءة، فتآمروا على الرسول وأذاقوا من اتبعه صنوفا من أشد العذاب، حتى أذن الرسول لأصحابه بالهجرة إلى المدينة المنورة، حيث رأى الرسول في المنام أنه هاجر إلى يثرب وهي المدينة المنورة، فأخبر أصحابه فهاجروا إليها نُصرة لدينهم، أخرج البخاري عن أم المؤمنين عَائِشَة قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لاَبَتَيْنِ فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ الْمَدِينَةِ وَرَجَعَ عَامَّةُ مَنْ كَانَ هَاجَرَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ. ولما أراد أبو بكر (رضي الله عنه) الخروج إلى المدينة مع من خرجوا فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: عَلَى رِسْلِكَ فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَلْ تَرْجُو ذَلِكَ بِأَبِي أَنْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَحَبَسَ أَبُو بَكْرٍ نَفْسَهُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. لِيَصْحَبَهُ، وَعَلَفَ رَاحِلَتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَهُ وَرَقَ السَّمُرِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، حتى أذن الله لرسوله بالهجرة فصحبه أبو بكر في هجرته.

مشاركة :