قال الناقد المغربي د. سعيد يقطين في مشاركته بالجلسة الافتتاحية لملتقى الشارقة للسرد في دورته السادسة عشرة (الرواية التفاعلية .. الماهية والخصائص) والذي عقدته دائرة الثقافة بحكومة الشارقة في العاصمة الأردنية عمّان خلال الفترة 17 – 19 سبتمبر/أيلول 2019: إنه لا مراء في أن "الثورة الرقمية" باتت واقعا يفرض نفسه على المشتغلين بأي مجال من المجالات التي تتصل بحياة الإنسان، بصفة عامة، والثقافة والإبداع والعلوم، بصورة خاصة. كما أن تناولها من زاوية التحديات والآثار يستنهض الهمم للتفكير والتساؤل عن مستقبل علاقتنا العربية بالثورة الرقمية بما تفرضه علينا من إشكالات ورهانات، ورؤيات تضعنا أمام محك الاختيار، والوعي بما تقتضيه من مبادرات تؤدي بنا إما إلى تحقيق المراد (كسب التحدي)، أو العجز عن الانخراط فيما صارت الأمم والشعوب تتنافس فيه من أجل فرض وجودها، واللحاق بالركب الرقمي الذي بات ضرورة من ضرورات العصر الذي نعيش فيه. وأوضح – في الجلسة التي رأسها د. زهير عبيدات، وعقب عليها د. عماد الضمور - أن معنى التحدي في اللغة العربية، وفي كل اللغات يتخذ معنيين متضادين: الإنذار بعدم القدرة على فعل التحدي، بسبب الصعوبات التي تحيط بالموضوع المتصل به، من جهة، ومواجهة الصعاب بهدف التغلب عليها، وعدم الاستسلام لها، من جهة ثانية. كما أن الآثار التي يمكن أن تنجم عن فعل التحدي، يمكن أن تكون إيجابية، وذلك في ضوء القدرة على المواجهة، والتصدي للصعاب، أو سلبية حين يكون العجز عن المقاومة، وإنجاز الفعل الذي يؤدي إلى تحقيق النتيجة المرجوة من التحدي في جانبه المتعلق، بالتصدي للصعاب والتغلب عليها. وتساءل: كيف يمكننا تحليل علاقة الثورة الرقمية بالإبداع من جهة التحديات والآثار؟ وقال: يدفعنا هذا السؤال إلى تبني أحد الخيارين: تكرار واجترار كل ما يقال عن الثورة الرقمية بدون وعي، وهذا هو السائد لدينا، وهو ما لا يؤدي إلى أي نتيجة، أو التفكير في الموضوع من زاوية نقدية تفتح لنا آفاقا جديدة لفهم الذات والموضوع في علاقاتهما معا بالتحولات الرقمية المحيطة بنا بهدف التمثل الدقيق، واقتراح مسارات جديدة للنظر والعمل، وهذا هو المطلوب، وإن كان هو المفتقد. فما هو مدخل ممارسة هذا التحليل النقدي لخطاب الثورة الرقمية من خلال ما يفرضه علينا الواقع العربي؟ وجوابا على هذا السؤال الإشكالي، لأنه بدون تقديم رؤية "عربية" للإشكال سنظل ندور في العموميات، قال يقطين: لا بد لنا أولا من تحديد طبيعة التحديات التي تفرضها علينا الثورة الرقمية، وتعيين الآثار التي نريد تحقيقها، ثانيا. وثالثا حصر مجالات التحدي وآثارها لأنه في غياب هذا الفعل سنظل نتحدث عن الثورة الرقمية بدون تدقيق ماذا نعنيه بها. وغياب هذا التدقيق لا يمكن أن يسلمنا إلا إلى أحاديث عامة لا طائل وراءها، تماما كما نفعل حين نتناول موضوعات تتعدد دلالاتها ومعانيها خارج سياقاتها الثقافية، وإمكانات التعامل معها وفق الشروط الثقافية الخاصة. وأشار يقطين أنه يمكننا التمييز بين ثلاثة تحديات يتصل كل منها بأثر من الآثار التي علينا العمل من أجل تحقيقها، وهي على النحو التالي: أ. تحدِّ عصري/ حديث: فرض علينا عصر النهضة العربية طرح أسئلة حول العصر الحديث. وتباينت التصورات جوابا عنها. رأى الاتجاه التقليدي أن مستقبلنا في ماضينا، وكان موقفه سلبيا من العصر لأنه وليد ثقافة الآخر. ورأى أصحاب الاتجاه الليبيرالي أن مستقبلنا معقود على تبني الثقافة الغربية الحديثة. وإلى الآن ما نزال نقيم ثنائية "الأصالة" و"المعاصرة". لا تختلف الثورة الرقمية عن الإبدال الذي فرض علينا السؤال: من نحن ومن الآخر؟ إننا أمام عصر جديد (العصر الرقمي) يفرض تحديات جديدة على البشرية جمعاء، وعلينا اتخاذ أحد السبيلين: العمل الجاد من أجل الانخراط في العصر، أو التقاعس عن ذلك. وإذا كان المأمول سلوك السبيل الأول، فهو يتطلب منا نحن العرب اتخاذ موقف واضح منها من خلال السؤال المركزي المزدوج: كيف يمكننا الانتقال إلى العصر الرقمي والانخراط فيه؟ وكيف يمكننا تجاوز عتبة "استهلاك" ما ينتجه الآخرون من تقنيات جديدة، وأفكار، وإبداعات جديدة تتماشى معه، إلى "الإنتاج" الذي يؤهلنا للمساهمة في تطوير منجزات هذا العصر، فكريا وتكنولوجيا؟ ومرة أخرى يتساءل سعيد يقطين: لقد بات ما يتصل بالثورة الرقمية جزءا من واقعنا العربي، فهل آثار هذا التحدي في مستوى تطلعات الإنسان العربي وتوقعاته لننخرط في العصر بشكل إيجابي؟ أم أننا سنظل سوقا استهلاكيا لمنجزات الثورة الرقمية؟ ب. تحد تاريخي/ تراثي: لا يقف التحدي العصري الحديث عند حدود استعمال التكنولوجيا الجديدة للمعلومات والتواصل فقط في الحياة اليومية، والعلمية، والإدارية الحالية. إنه يفرض علينا أيضا التعامل مع تاريخنا وتراثنا بالاستفادة مما تقدمه لنا هذه الثورة الرقمية. إن تجديد علاقتنا بتراثنا في مختلف أشكاله وصوره بما يتوافق مع هذه الثورة هو جزء من التحدي العصري الحديث لأنه نظير ما وقع حين عرف العرب الطباعة، فراحوا يعملون على طبع التراث العربي من خلال الاستفادة من علم "التحقيق". إنه بدون ترهين تراثنا رقميا، عبر تحويله ليصبح التعامل معه ممكنا من خلال الوسائط الجديدة ستظل المسافة بين التاريخ والعصر، أو بين المكتوب والمطبوع والمرقوم قائمة في ثقافتنا وإبداعنا. فهل يكفي تصوير تراثنا ونقله إلى الفضاء الشبكي بقصد تخزينه، وأرشفته، لادعاء أننا منخرطون في العصر الرقمي؟ أم لا بد من ترهين تراثنا في مختلف صيغه وأشكاله الشفاهية والكتابية والطباعية ليقدم من خلال ما توفره لنا عملية الترقيم والرقامة من إمكانات تتعدى التصوير؟ ج. تحد ثقافي / إبداعي: علاوة على التحديين العصري والتاريخي هناك التحدي البشري والثقافي والإبداعي. إن امتلاك المعرفة الرقمية، ومحاربة الأمية المتصلة بها، وتطوير الأنظمة التعليمية والتربوية، وإنتاج الفنون والآداب والعلوم صار مرتبطا بوثوق بالثورة الرقمية. فلماذا تأخر إنتاج نصوص إبداعية في مختلف الفنون والآداب العربية بالاستفادة مما حققته الثورة الرقمية على الصعيد العالمي؟ ومتى، وكيف يمكننا تجاوز هذا التحدي بهدف إنتاج النص الرقمي العربي، سواء على مستوى الثقافتين العلمية والأدبية؟ إن كل هذه التحديات، وما يتصل بها من آثار تترابط فيما بينها وتتواشج. لقد عملنا على التمييز بينها لضرورة التحليل، وبغية تحديد المجالات، أو الاختصاصات التي ينبغي تطويرها على مستوى البحث والدراسة لمواجهة أي تحد بما يلزمه من أدوات وإجراءات للنظر والعمل. إنه بدون تحديد المجالات العلمية التي تمكننا من فهم واستيعاب وتعميق تصوراتنا حول التحديات وآثارها لا يمكننا أبدا الشروع في العمل الذي يسهم في تذليل الصعوبات، وتحقيق الآثار المطلوبة. وأوضح سعيد يقطين أن عصرا جديدا مثل العصر الرقمي يتطلب تقديم رؤيات وأدوات جديدة للنظر والعمل. لقد أدى إلى بروز ممارسات وعلوم جديدة تضاف إلى العلوم القديمة. وبدون خلق هذه العلوم المتصلة بالعصر الرقمي، في الفضاء العربي، وجعلها مسالك للبحث والدراسة من الابتدائي إلى العالي لا يمكننا سوى البقاء في دائرة العموميات، ونحن نتحدث عن الثورة الرقمية، وتكنولوجيا المعلومات والتواصل، والثورة التكنولوجية الرابعة، وعصر المعلومات، وعصر إنتاج المعرفة، واقتصاد المعرفة، وما شابه هذا من الاستعمالات المتصلة بالعصر الرقمي والتي باتت متداولة على نطاق واسع. وقال: لقد أدى بروز الثورة الرقمية إلى الاهتمام بإعادة النظر في تصنيف العلوم والاختصاصات المتعددة المتصلة بها بسبب ظهور اختصاصات جديدة ومتعددة. وأشار إلى أنه منذ أن بدأت تتبلور ملامح عصر جديد مع التطور الذي حققته التكنولوجيا الجديدة للمعلومات والتواصل منذ ثمانينيات القرن الماضي، صار الحديث عن الثورة الرقمية، والعصر الرقمي يفرض نفسه في مختلف نواحي الحياة. وكان أن نتج عن الثورة الرقمية بروز عالم جديد يتحدد من خلال الفضاء الشبكي الذي بني على دعامتين مترابطتين: العتاد التكنولوجي، والبرمجيات التي حققت للعتاد إمكانية توظيفه بطرق مختلفة وجديدة عما كان عليه التواصل بين الناس، من جهة. ومن جهة ثانية أدت إلى ميلاد تراث فكري جديد وغزير يستكشف ويحلل، ويصف ويسائل كل ما تحقق مع تلك الثورة الرقمية بهدف التحكم فيه وتوجيهه لبسط المزيد من الهيمنة على المستوى العالمي. فما هي العلاقة التي أقمناها مع الدعامة الأولى؟ وما مدى تفاعلنا الإيجابي مع الأدبيات الرقمية الأجنبية قراءة، واستيعابا، وترجمة للأصول التنظيرية للثقافة الرقمية؟ يقودنا هذان السؤالان إلى تأكيد أنه يمكننا الحديث عن الثورة الرقمية باعتبارها في آن واحد ذاتا وموضوعا. فهي ذات لأنها ساهمت في خلق موضوعات جديدة للتبادل والتواصل. وهي موضوع لأنها صارت مثار الاهتمام والبحث من لدن مختلف الاختصاصات القديمة التي يشتغل بها الإنسان إلى جانب اختصاصات جديدة تولدت مع الثورة الرقمية. وبدون التفكير في هذه الثورة الرقمية من هاتين الزاويتين لا يمكننا أبدا فهم طبيعتها، ولا خصوصيتها لأننا سنظل نتعامل بتبسيط شديد معها باعتبار أهم منجزاتها يكمن في أنها تمت من خلال استحداث وسيط جديد للمعلومات والتواصل، هو الحاسوب الموصول بالفضاء الشبكي، دون أن نتعداه إلى فهم خلفياتها وأبعادها المختلفة. فكيف يمكننا التفكير في ما تحقق مع الثورة الرقمية من خلال هاتين الزاويتين المشار إليهما؟ جاءت الثورة الرقمية في صيرورة من التطورات نتيجة ما تحقق على مستوى المنجزات التكنولوجية الجديدة التي طرأت بعد الحرب العالمية الثانية بصورة خاصة. وهي تدفعنا إلى تغيير رؤيتنا إلى التاريخ، والحاضر من أجل المستقبل لأنه كلما تطورت وسائط الإنسان في التواصل والتفاعل كان ذلك محفزا على تطور الإنسان معرفيا واجتماعيا. فالوسائط ليست فقط أدوات، أو وسائل، ولكنها علاوة على ذلك رؤيات وتصورات وتمثلات للعالم. فمتى تمكن الإنسان من تطوير وسائطه أدى ذلك إلى تغيير رؤيته للأشياء. لذلك فإننا نعتبر ما تحقق مع الثورة الرقمية في تاريخ البشرية دليلا على تحقق عنصرين أساسيين بموجبهما تغيرت حياة الناس عما كانت عليه قبل نشوئها. ويبدو لنا ذلك بجلاء من خلال ما يلي: الثقافة الرقمية مرحلة عليا في تاريخ البشرية: على خلاف بعض الآراء العربية التي تذهب إلى اعتبار الثورة الرقمية قطيعة مع ما سبقها من مراحل، وتتوقع نفيها ونسخها لما تحقق في المراحل السابقة، بادعاء مثلا أن النص الرقمي سيقضي على الكتاب الورقي، أعتبر الثورة الرقمية امتدادا للحلم الإنساني في تطوير وسائطه. إنها مرحلة متطورة بالقياس إلى غيرها، وفي الوقت نفسه هي امتداد لها، وتوسيع لما تحقق فيها. شمولية الثقافة الرقمية: يبدو لنا ذلك بوضوح في كون الثورة الرقمية عملت على استيعاب واستجماع كل الوسائط الشفاهية والكتابية والطباعية والجماهيرية التي مارسها الإنسان في تاريخه الطويل. لقد تم تحويل كل الوسائط القديمة لتتلاءم مع خصوصية الوسيط الجديد، ومن خلال ذلك تم تقديم ثقافة جديدة، ونص جديد، وأشكال تعبيرية جديدة إلى جانب رؤية جديدة للعالم وللتواصل بين الناس. لكل هذه العوامل التي يتميز بها الوسيط الجديد، نحن مطالبون بإعادة النظر في كل التطورات التي اشتغل بها الإنسان قبل ظهوره. بمعنى آخر إنه يقدم لنا إمكانات جديدة لرؤية الأشياء وتصورها. ويفرض علينا هذا التحول إعادة فهم الإبداع، والإنسان، والدماغ، ومختلف العلاقات بين الناس. ومن بين ما يستدعيه هذا بروز علوم واختصاصات جديدة تمكننا من التلاؤم مع ما يفرضه هذا العصر الرقمي. ورأى يقطين أن شمولية الثورة الرقمية تكمن في كونها مست مختلف جوانب حياة الإنسان حتى أنها صارت ملكا مشاعا بين مختلف الأفراد والجماعات أيا كان مستواهم الثقافي والاجتماعي والاقتصادي حتى أنه صار بالإمكان الحديث عن دمقرطة الثقافة بشكل لم يتحقق في أي عصر من العصور السابقة. يقودنا هذان البعدان اللذان تتميز بهما الثورة الرقمية بالنظر إلى غيرها من الثورات التي تحققت في تاريخ البشرية، إلى أنها مكسب تاريخي للبشرية جمعاء، وأن التمايز بين الأمم والشعوب يكمن في مدى الانخراط فيها، أو الإسهام في تطويرها. ولعل أهم ما يحدد خصوصيتها، على غرار كل الثورات الكبرى في تاريخ البشرية، يتجلى في إمكان، بل وضرورة تغيير نظرتنا إلى الأشياء والعوالم، والعلاقات. إنها إبدال معرفي جديد، وعلى المستويات كافة. وهو يمنحها فعلا كونها "ثورة" حقيقية في التاريخ.
مشاركة :