في عام 2013 عثر محققون برازيليون كانوا يعملون في قضية غسل أموال روتينية مصادفة على شيء أكبر بكثير: مخطط للرشوة والتلاعب بالعطاءات لضم شركة النفط العملاقة "بتروبراس" الخاضعة لسيطرة الدولة. فقد كشفت "عملية مغسلة السيارات" وهو الاسم الذي صار يعرف به التحقيق، أن بعض أكبر شركات البناء والهندسة في البرازيل دفعت مليارات الدولارات على شكل رشا على مدى عدة أعوام للحصول على عقود مربحة من شركة بتروبراس. وتورط العشرات من المسؤولين الحكوميين والسياسيين في هذه الفضيحة. ومثل هذه المعاملات المشبوهة لا تقتصر بالطبع على اقتصادات الأسواق الصاعدة كالبرازيل. ففي إحدى الحالات الصارخة في السبعينيات، تلقى سياسيون في اليابان رشا للموافقة على عقود شراء طائرات عسكرية أمريكية. وكانت هذه الفضيحة أحد الدوافع وراء إصدار قانون يمنع الشركات الأمريكية من دفع رشا في الخارج. لكن أينما يظهر الفساد أو إساءة استخدام المنصب العام لتحقيق مكاسب خاصة، فإنه يشوه أنشطة الدولة ويؤثر في النهاية في النمو الاقتصادي ونوعية معيشة الشعب. ويمكن أن يكون للفساد تبعا لمداه تأثير ضار عميق في الماليات العامة حيث تتلقى الحكومات حصيلة أقل من إيرادات الضرائب وتسدد مدفوعات أكبر مقابل السلع والخدمات أو المشاريع الاستثمارية. لكن تكلفة الفساد أكبر من مجموع الأموال الضائعة، فالتشوهات في أولويات الإنفاق تقوض قدرة الدولة على تعزيز النمو المستمر والشامل إذ تستنزف الموارد العامة بعيدا عن التعليم والرعاية الصحية والبنية التحتية الفعالة، وهي أنماط الاستثمارات التي من شأنها تحسين الأداء الاقتصادي ورفع مستويات المعيشة للجميع. كيف يحد الفساد من الإيرادات؟ من ناحية، يمكنه الإضرار بقدرة الحكومات على جمع الضرائب بطريقة عادلة وكفؤة. فالمشرعون الفاسدون قد يدرجون إعفاءات ضريبية أو ثغرات أخرى مقابل الحصول على رشا ما يقلل الإيرادات الممكن تحقيقها. وكلما زاد تعقيد النظام الضريبي وغموضه، كان من الأسهل على المسؤولين ممارسة التقدير الاستنسابي في إدارته والمطالبة برشا أو عمولات مقابل الحصول على نتيجة مؤاتية. فعلي سبيل المثال، في قضية وردت في صحيفة" نيويورك تايمز" عام 1996، زعم أن عمال البلدية قبلوا رشا لجعل الأمر يبدو كأن الضرائب غير المدفوعة قد سددت بالفعل. وبشكل أعم من شأن تشويه القوانين الضريبية وفساد موظفي الضرائب الحد من ثقة الجمهور بالدولة، ما يضعف رغبة المواطنين في دفع الضرائب. ويمكن أن يؤدي كبح الفساد إلى فوائد مالية عامة كبيرة، إذ يشير بحثنا إلى أن الإيرادات أعلى في البلدان التي يتصور أنها أقل فسادا؛ فالحكومات الأقل فسادا تتلقى إيرادات ضريبية أكبر بنسبة 4 في المائة من إجمالي الناتج المحلي مقارنة بالاقتصادات التي تمر بمستوى التنمية الاقتصادية نفسه ذات المستويات الأعلى من الفساد. وأحرزت بعض البلدان تقدما على مدار العقدين الماضيين، وإذا ما تمكن جميع البلدان من تقليص الفساد بطريقة مماثلة، يمكنها أن تجني تريليون دولار في هيئة عائدات ضريبية مفقودة أو ما يعادل 1.25 في المائة من إجمالي الناتج المحلي العالمي. على الرغم من أن الفساد يمكن أن يحدث في أي مكان تقريبا إلا أنه أكثر انتشارا في بضع بؤر ساخنة، إحداها تنطوي على الموارد الطبيعية، خاصة النفط والتعدين. فالأرباح الضخمة المرتبطة باستخراج الموارد الطبيعية تمثل حوافز قوية لدفع الرشا أو حتى للسيطرة على الدولة في الحالات التي تتأثر فيها السياسات العامة والقوانين بالممارسات الفاسدة لضمان السيطرة على الثروة الطبيعية للبلد المعني. وفي الواقع، تميل البلدان الغنية بالموارد الطبيعية إلى أن تكون أكثر فسادا لأنها تعاني مؤسسات أضعف وسوء المساءلة في استخدام ثرواتها الطبيعية. وينتشر الفساد أيضا بين المؤسسات المملوكة للدولة في الحالات التي قد تكون فيها الإدارة العليا عرضة للتأثير غير المشروع من جانب موظفي الخدمة المدنية والمسؤولين المنتخبين. ونتيجة لذلك، فإن الشركات المملوكة للدولة في القطاعات الحيوية، مثل الطاقة والمرافق العامة والنقل، تكون أقل ربحية وكفاءة في البلدان التي تعاني قدرا أكبر من الفساد. ويؤكد عديد من تحقيقات الفساد الشهيرة التي تنطوي على مثل هذه الشركات مخاطر إساءة استخدام الموارد العامة، بما في ذلك شركة بتروبراس في البرازيل، وشركة إلف أكويتين في فرنسا قبل خصخصتها، وشركتا إسكوم وترانسنت في جنوب إفريقيا. علاوة على ذلك، تشير البحوث إلى أن الفساد هو أحد الأسباب الرئيسة التي تجعل الشركات الخاصة تميل إلى أن تكون أكثر إنتاجية من الشركات المملوكة للدولة. والمثير للدهشة أنه في البلدان التي يكون فيها الفساد أقل شيوعا، تقل أهمية نمط الملكية كثيرا في تفسير الاختلاف في الأداء بين الشركات.
مشاركة :