تقول صديقتي.. لا أحب أن أعود إلى الماضي.. ولا أتمنى أن أكون فيه.. ليس لأن الحاضر أفضل منه كثيراً.. ولكن طبيعتي ترفض اجترار الماضي.. والتحسر عليه وأنه كان الرداء الأجمل والأكثر بساطة مما نحن فيه.. ورغم جدالنا المستمر على كينونة الماضي.. أو ما يُسمى بالذكريات.. وبعض صورها المسكونة في دواخلنا وامتناننا لتلك الأيام البريئة.. تحتفظ صديقتي برأيها القاطع وهو أنها كانت ذكريات تعيسة ومؤلمة.. وخالية من الراحة.. والمتعة.. وحرية الشخص في أن يكون ما يريد من غير أن يلفت الآخرين.. وما بين اختلافنا في الرأي والرؤى.. نتفق على مبدأ عدم الغوص في تلك الأيام بقوة.. مع احتفاظي بخصوصية فصل كل ماهو جميل عن كل ماهو موجع..! لكن هل ما نحمله من ذكريات هو الحياة كما يرى البعض وهو امتداد للحاضر والوجه الآخر للمستقبل؟ أم أنه بمعيار المنطق هو جزء من الحياة فقط.. وليس كلها؟ وهذا الجزء يمكن الاستغناء عنه أحياناً.. والعودة إليه أحياناً أخرى للاستظلال به.. من قهر الواقع.. أو تجاهله.. للتمتع بالحاضرالأجمل..! ميزة الذكريات أنها خاصة في معظم الأحيان وتحملك إلى داخل طمأنينة موقتة.. وكما يقول أحدهم.. "الذكريات الجميلة كسرب الطيور المهاجرة لا يمكنك القبض عليها.. ولكن يمكنك الاستمتاع بمرورها أمامك.. "..! هذا المرور العابر يسعدك ولكنه يتماهى مع صور أليمة آخرى.. فمثلاً ًعندما نتذكر أحباب وأصدقاء وأقارب عشنا معهم لحظات جميلة وآسرة وإنسانية وصادقة نسعد.. ولكن بمجرد ربطها بأين هم الآن تشعر بالألم والمرارة خصوصاً لمن غادروا..! قبل أيام كنت في مكان مافي الأرض.. مع والدتي وأختي وكلما مررنا بمكان أو صورة تذكرنا صديقة تلازمت مع العائلة على امتداد أكثر من عشرين عاماً.. تداخلت معنا في كل تفاصيل الصورة بجمال وإنسانية وحب ومصداقية.. ومواقف من الصعب أن تُنسى.. أكلنا وشربنا معاً وخرجنا وشاهدنا.. كل تلك الذكريات اختزلتها الأماكن التي شهدت تجمعنا.. ولكن هذه المرة لم تعد موجودة غادرت الدنيا بسرعة ولم يتبقَ منها إلا الذكريات الجميلة ولكنها في الأماكن التي التقينا فيها تظل مغموسة بالوجع ومن الصعب تذكرها أو الاستمتاع بها فقط.. الترحم عليها والدعاء لها بالمغفرة..! وهناك ذكريات عابرة رغم خصوصيتها وأليمة عندما كانت في وقتها كموقف.. لكنها عندما تتحول ذكريات تعبر كالريح إذا حضرت مرتبطة بأمكنة مشتركة أو أزمنة.. ولا تستشعر منها شيئاً سوى أنها فارغة من كل شيء.. حيث تتحول إلى صورة بلا طعم أو رائحة..!! من طبعي الهروب عادة من الذكريات الأليمة وعدم التلذذ بها.. سواء كانت مرتبطة بمن فارقونا أو بأيام لا نتمنى أن تعود.. ربما لأنّ الحياة لم تعد تحتمل هذا التناغم مع الألم القديم.. أو أننا ندرك من غير إدراك ضرورة عدم زراعة القلوب بين الحين والآخر بما يوجعها ويؤلمها.. من تفاصيل السابق والاكتفاء بالحاضر.. الذي يسكننا الريح العاتية متى أراد.. ويفقد الحياة متعتها.. ويسلبها مسارها حتى وإن كان اعتيادياً..! نتذكر هذا هو الطبيعي ولكن أن ننغمس في الذكريات والماضي وكأنه الحياة الجديدة.. أو الظل الذي علينا أن نستظل به لنهرب من حرارة الشمس الحارقة.. ونتحول إلى أصحاب ذكريات وليس أصحاب واقع.. يصعّب الحياة ويخاطب فيها الجانب البعيد وليس القريب.. كما أنه يبتعد بك عن ملامسة الواقع الذي أنت به وعليك التحرك داخله والحياة في تفاصيله.. والسكن داخله وليس خارجه..! يقول راموند مورتيمر"إنّ ذكرياتي كبوتقة الصائغ يسيل منها الذهب وتبقى بها الشوائب".. ويقول أحدهم.. "لا تثق بذاكرتك، إنها شبكة يتسرب منها أفضل الأشياء.. "ولكن ورغم امتلاكنا ذكريات كثيرة إلا أنها تحضر وقتما تشاء وتغيب وقتما تشاء.. بمعنى أنها هي من يفرض الوجود.. وفي المحصلة نعيش ونتذكر ولا نعيش مع الذكريات.. لأن هناك ذكريات منتهية الصلاحية وعتدما تحضر لا يمكن استخدامها لأنها مضرة بالصحة.. وهناك ذكريات تملأ النفس بالسكينة والهدوء.. ونسعد بها ونحبها.. وبعضها نذوب فيه لأنه الجزء البسيط فينا والبريء.. ولكن بعضها نتعوذ من الشيطان إن حضرت.. ومع التعوذ تذوب وتغيب وتتلاشى في أروقة الأيام والليالي..!!
مشاركة :