ما يربط بين الذاكرة المكتظة بما في داخلها، والأحلام، مسافة ممتدة، لا يمكن تحريرها من الوجع، ولا صياغتها بالكلمات، ولاتنميقها بحروف متقاطعة، مسافة هائلة من الواقع الذي يعيش داخلك، وتتدثر به ذاكرتك، بالتفصيل، وتنوء بحمله كلما ازداد عمرك، وتمكنت منك الأيام وهذا هو الرابط المشترك بينهما، بين الحلم والذاكرة! ميزة الذاكرة أنها تضع نقطةً بل نقاطاً في أغلب الأحيان، على نهاية كل سطر وهذا السطر في الواقع هو حكاية مؤلمة، أو فقدان عزيز، أو هزيمة قد تكون تجاوزتها ولكن الذاكرة “الخزنة” الإنسانية تظل تحتفظ بكل الملفات سواء التي حققت فيها نجاحاً أو صدمتك الهزيمة وتمكنت منك، تحتفظ بها ولا تنتظر منك الإذن لما ينبغي أن تحتفظ به أو تفرمته، فمهمتها هي الاحتفاظ، فقط، واعتقال الملفات لديها حتى تلك التي اعتقدت يوماً أنك تخلصت منها وطويت صفحاتها، وأحياناً أحرقتها، تظل تحتفظ بها وتدسها في أعماقها، وتنشرها أحياناً ليس في وقت الحاجة، أو المناسبة، وكأنها تذكرك بأنها موجودة ولم يتم التخلص منها أو إزالتها! وحدها الذاكرة المنفصلة عنك لا تتعب من الحفظ، ولا تتألم من كثرة الملفات التي لديها، ولا تهرّب بعضها خوفاً عليك، ولا تخشى أن تأتي تلك الساعة التي تقاوم فيها وترمي ما لديها، لأنها في تلك اللحظة سترمي بها للموج العاتي والذي سيعيدها لها بعد أن اعتقدت أن البحر قد ابتلعها ولا تعرف أنها قد كتبت مع الموج معاهدة الحفظ والعودة إليها، لتظل أنت الخائف الوحيد من فتح تلك الخزنة وقراءة ملفاتها! هكذا هي الذاكرة لا تتردد في البوح متى شاءت، ولا تخاف أن تخنقك في عز الفرح، ولا يعنيها إن أيقظتك من نومك لتفتح لك ملفاً غائباً اعتقدت أنه أحرق ودفن! وما بين سطوة الذاكرة التي لا تستجديك في الحضور وبين تلك الأحلام التي نظل نركض خلفها وكلما اقتربت منها عاودت الابتعاد، مسافة شاسعة من الكلمات والرؤى، فالأحلام وحدها من تجلس معه على شفا الحياة، وهي من يضبطك معها متلبساً بالفرح، وهي الحياة التي لم تعشها، تسرق تفاصيلها وأنت تقف هناك في رحلة الوجع، وتظل تحملها معك كإرث من الماضي وهو ماضي اللحظة إلى ثروة للحاضر إلى تملك للمستقبل. تحلم لتهرب من ذاكرتك المكتظة، تحلم لتشعر بالاطمئنان بأنك قادر على الحلم، وأنك لا تزال على قيد الحياة، فالأحياء وحدهم من يحلمون، والأموات المسجلون أحياء لا يحلمون لأنهم غادروا الحياة التي هي في الأصل وجه الحلم، وجه الأمل، ملامح الشغف، والذي وحده يشكّل كل المشهد الذي تراه والذي ينبغي أن تراه. المس شغفك، ابحث عنه، حارب من أجل أن تظل محتفظاً به، لأنه هو الوحيد القادر أن يمنع قلبك من التوحش، وروحك من الغياب، ووعيك من اليباس، وأيامك من التسكع الفارغ. وجبهاتك من الخمول. في النهاية أنت بين الذاكرة والحلم وعليك أن تقاتل من أجل شروق أحلامك واستمتاعك بنسيمها وإخراجك من رتابة الحياة، ومهادنة الذاكرة بالامتنان لقدرتك على التجاهل والسير إلى الأمام، والبحث عن تلك الأشياء الصغيرة التي تكسر البلادة والتمتع بها. —————————————————— نجوى هاشم الرياض
مشاركة :