ثمة من يقول إن روسيا فلاديمير بوتين، تتحضر اليوم للقفز فوق مشاكلها الداخلية نحو نطاق عالمي تتطلع لريادته بين مجموعة أقطاب آخرين. لكن روسيا وإن ورثت الكثير من مقومات الدولة العظمى عن الاتحاد السوفييتي، إلا أنها لم تستطع صرفها سياسياً واقتصادياً في إطار المنافسة مع الولايات المتحدة، بل ظلت مجرد دولة إقليمية كبرى عاجزة عن فرض سياسات ذات طابع عالمي منافس. فالمنافسة تتطلب إمكانات فارقة، بدءاً بالاقتصاد والأمن وليس انتهاء بصور نمطية عن حضارتها وثقافتها، وهي بالمناسبة باتت مرتكزاً رئيسياً في الإعلام. إن التدقيق في بعض الأرقام ذات الدلالات الاجتماعية تعطي صورة قاتمة لمستقبل المجتمع الروسي، وهو عامل سلبي في طريق أي قفزة سياسية دولية. فمعضلة المخدرات مثلاً وما نجم عنها من تداعيات مقلقة تنذر بعواقب وخيمة على بنية المجتمع الروسي، لجهة البنيان الاقتصادي والسياسي. وبخاصة بعدما تحولت هذه الظاهرة من آفة اجتماعية إلى آفة اقتصادية بأبعاد محلية ودولية. فالمجتمع الروسي يستهلك 12٪ من إجمالي الإنتاج العالمي للمخدرات، وتصل حالات الوفيات إلى 04 ألف شخص من مواطنيه سنوياً بسببها، إذ يبلغ حجم تداول المخدرات في روسيا 08 مليون طن في العام الواحد. وتشير تقارير أجهزة مكافحة المخدرات الروسية، إلى أن المخدرات تتسبب بخسائر للاقتصاد الروسي تصل إلى أكثر من 03 مليار دولار سنوياً من الناتج المحلي الإجمالي. كما أن نحو 56٪ من الجرائم المرتكبة في روسيا لها علاقة بالمخدرات. والأخطر في هذه الأرقام، أن روسيا تحوّلت مؤخراً من قاعدة وسيطة لنقل المخدرات إلى أحد أكبر مستهلكيها. فقد كان 07٪ من الحجم الإجمالي للمخدرات المهربة إلى روسيا في 6991 يجري إعادة تهريبه إلى الخارج. فيما اليوم يُستهلك 09٪ منه داخلياً. ويأتي أكثر من 09٪ من المخدرات إلى روسيا من أفغانستان وبعض جمهوريات آسيا الوسطى. كما ترتبط تجارة المخدرات بالنشاط الإجرامي في روسيا. فتصل إيرادات هذه التجارة في موسكو وحدها إلى مليار دولار سنوياً. فيما يصل مبيعات المخدرات في عموم روسيا إلى 7 مليارات دولار في السنة. وباتت هذه الآفة تهدد البنى الاجتماعية والاستقرار الاجتماعي في البلاد. فقد زاد عدد متعاطي المخدرات إلى أربع مرات، ووصل هذا العدد، بحسب المعطيات الرسمية، إلى أكثر من ثلاثة ملايين شخص، معظمهم في سن 15 إلى 25 سنة. كما ارتفع عدد النساء المتعاطيات للمخدرات في روسيا إلى نحو 7 مرات، وارتفع عدد الجرائم المرتبطة بها خلال السنوات الخمس الأخيرة بست مرات. كما يرتبط انتشار المخدرات بارتفاع معدلات الإصابة بمرض الإيدز. وبحسب التقارير الرسمية أن 09٪ من الإصابات تحدث في صفوف متعاطي المخدرات. إذ وصل العدد إلى نصف مليون مواطن هذا العام، ومن المتوقع أن تصل إلى خمسة ملايين إصابة خلال السنوات الخمس المقبلة، علماً أن 09٪ تتراوح أعمارهم بين 51 و03 سنة. وعلى الرغم من المساعي الروسية الحثيثة لمكافحة هذه الآفة مع العديد من الجهات الدولية، إلا أن وصول هذه النسب والأرقام إلى ما هي عليه، تنذر بوضع اجتماعي اقتصادي كارثي، سيحد من طموحات روسيا في التنمية الداخلية، كما الطموحات الدولية، وهو أمر من شأنه تقويض بنية النظام الاجتماعي السياسي الذي تراهن سياسة فلاديمير بوتين عليها لنقل روسيا من ضفة إلى أخرى. لقد باتت المخدّرات القنبلة الموقوتة والسلاح الأخطر في وجه الأمن القومي الروسي، إلى جانب الإرهاب والحصار الجيو السياسي عبر حلف شمال الأطلسي، والدرع الصاروخية الأمريكية وأزمة أوكرانيا والعقوبات الغربية. لذا، من المبكر التنبؤ بمستقبل القدرة الروسية على صرفها في السياسات الدولية، وإن كانت تمتلك مفاتيح إدارة بعض الأزمات الإقليمية في العديد من مواقع الشرق الأوسط. وفي الواقع مهما امتلكت الدول من مقدرات اقتصادية وعسكرية، وفي الوقت نفسه لا تمتلك ما تصدره من صور نمطية ذات طابع ثقافي أو حضاري للآخرين، ستظل دول تعيش على أضغاث الأحلام، وفي أحسن الأحوال العيش على أمجاد الماضي، وإن لم تكن تمتلكها هذه الدول بمفردها.
مشاركة :