تؤدي الشركات الوهمية التي يتم إنشاؤها في الملاذات الضريبية إلى تقويض عملية تحصيل الضرائب في الاقتصادات المتقدمة واقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية. ووفقا للإحصاءات الرسمية تتلقى لكسمبورج البلد الذي يبلغ عدد سكانه 600 ألف نسمة، استثمارات أجنبية مباشرة تعادل ما تتلقاه الولايات المتحدة وتتجاوز بكثير ما تتلقاه الصين من هذه الاستثمارات. والاستثمارات الأجنبية المباشرة التي تبلغ قيمتها أربعة تريليونات دولار في لكسمبورج تعني أن نصيب الفرد من هذه الاستثمارات 6.6 مليون دولار. ومن المؤكد أن وجود استثمارات أجنبية مباشرة بهذا الحجم لا يعكس حجم الاستثمارات التقليدية في اقتصاد لكسمبورج الصغير للغاية. فهل هناك خطأ في الإحصاءات الرسمية أم أن هناك شيئا آخر ينبغي أن يؤخذ في الحسبان؟ وغالبا ما يكون الاستثمار الأجنبي المباشر محركا مهما للتكامل الاقتصادي الدولي الحقيقي، إذ يؤدي إلى تحفيز النمو وإيجاد فرص العمل وزيادة الإنتاجية من حال انتقال رؤوس الأموال والمهارات والتكنولوجيا. لذلك، يضع عديد من البلدان سياسات لجذب مزيد من هذا الاستثمار. لكن ليس كل استثمار أجنبي مباشر يجلب رأس المال اللازم لزيادة الإنتاجية. ففي الواقع العملي يعرف الاستثمار الأجنبي المباشر بأنه الاستثمار المالي العابر للحدود بين الشركات التي تنتمي إلى المجموعة نفسها متعددة الجنسيات، وكثير من هذه الاستثمارات وهمي بطبيعته فهي استثمارات تنتقل عبر شركات وهمية. ولا تقوم هذه الشركات الوهمية التي يطلق عليها أيضا الكيانات ذات الغرض الخاص، بأي أنشطة تجارية حقيقية، بل تقوم بأنشطة الشركات القابضة، أو بتقديم تمويل داخلي، أو بإدارة أصول غير ملموسة، غالبا بهدف تقليل الفاتورة الضريبية العالمية للشركات متعددة الجنسيات. وتؤدي هذه الهندسة المالية والضريبية إلى عدم وضوح إحصاءات الاستثمار الأجنبي المباشر التقليدي وصعوبة فهم التكامل الاقتصادي الحقيقي. هناك حاجة إلى بيانات أفضل لمعرفة المكان الذي توجه إليه مبالغ قيمتها 40 تريليون دولار في صورة استثمارات أجنبية مباشرة في جميع أنحاء العالم ومن الذي يقوم بذلك ولماذا. وعن طريق الجمع بين البيانات التفصيلية للاستثمار الأجنبي المباشر الصادرة عن منظمة التعاون والتنمية في المجال الاقتصادي والتغطية العالمية للمسح المنسق للاستثمار المباشر الذي أعده صندوق النقد الدولي تقوم دراسة جديدة "تصدر قريبا" بإنشاء شبكة عالمية تحدد جميع علاقات الاستثمار الثنائية، مع الفصل بين الاستثمار الأجنبي المباشر الوهمي والاستثمار الأجنبي المباشر الحقيقي. ومن المثير للاهتمام أن عددا قليلا من الملاذات الضريبية المعروفة يتلقى الأغلبية العظمى من الاستثمارات الأجنبية المباشرة الوهمية في العالم. وتتلقى لكسمبورج وهولندا ما يقرب من نصف هذه الاستثمارات. وعند إضافة منطقة هونج كونج الإدارية الخاصة، وجزر فيرجن البريطانية، وبرمودا، وسنغافورة، وجزر كايمان، وسويسرا، وإيرلندا، وموريشيوس إلى القائمة نجد أن هذه الاقتصادات العشرة تتلقى أكثر من 85 في المائة من جميع الاستثمارات الوهمية. لماذا وكيف يجذب هذا العدد القليل من الملاذات الضريبية قدرا كبيرا من الاستثمارات الأجنبية المباشرة الوهمية؟ في بعض الحالات تكون هناك استراتيجية مدروسة على مستوى السياسات لجذب أكبر قدر ممكن من الاستثمارات الأجنبية من خلال تقديم مزايا مربحة، مثل جعل معدلات ضريبة الشركات الفعلية منخفضة للغاية أو صفرية. وحتى إذا كانت الشركات الوهمية بلا موظفين أو يعمل فيها عدد قليل من الموظفين في الاقتصاد المضيف ولا تدفع ضرائب الشركات، فإنها لا تزال تسهم في الاقتصاد المحلي من خلال شراء المشورة الضريبية، والخدمات المحاسبية وغيرها من الخدمات المالية، وكذلك من خلال دفع رسوم التسجيل والتأسيس. بالنسبة للملاذات الضريبية في منطقة الكاريبي تشكل هذه الخدمات النسبة الرئيسة في إجمالي الناتج المحلي إلى جانب السياحة. في إيرلندا تم تخفيض معدل الضريبة على الشركات إلى حد كبير من 50 في المائة في ثمانينيات القرن الـ20 إلى 12.5 في المائة في الوقت الحالي. وإلى جانب ذلك تستفيد بعض الشركات متعددة الجنسيات من الثغرات التي تشوب القانون الإيرلندي عن طريق استخدام أساليب الهندسة الضريبية الحديثة ذات الأسماء الرمزية المبتكرة مثل "إيرلندي مزدوج مع شطيرة هولندية" وهو أسلوب ينطوي على تحويل الأرباح بين شركات تابعة في إيرلندا وهولندا لها ملاذات ضريبية في منطقة الكاريبي باعتبارها المقصد النهائي المعتاد. وينتج عن استخدام هذه الأساليب فرض معدلات ضريبية أقل أو تجنب الضرائب تماما. ورغم التخفيضات الضريبية، ارتفعت إيرادات إيرلندا من ضرائب الشركات كنسبة من إجمالي الناتج المحلي نظرا للنمو الكبير في الوعاء الضريبي، وهو ما يرجع في جانب كبير منه إلى التدفقات الوافدة الضخمة من الاستثمار الأجنبي. وقد تكون هذه الاستراتيجية مفيدة لإيرلندا، لكنها تؤدي إلى تآكل الأوعية الضريبية في اقتصادات أخرى. وانخفض المتوسط العالمي لمعدلات الضريبة على الشركات من 40 في المائة عام 1990 إلى نحو 25 في المائة عام 2017، ما يشير إلى الدخول في سباق نحو القاع وإلى أن هناك حاجة إلى تنسيق دولي... يتبع.
مشاركة :