تكاد كل البلدان تقريبا تحتاج إلى مزيد من البنية التحتية كالطرق والجسور والمطارات وشبكات الاتصالات السلكية واللاسلكية، ومحطات الكهرباء، والنقل العام. ومع انخفاض أسعار الفائدة ــ والتكلفة الزهيدة لتمويل الإنفاق الحكومي نتيجة لذلك ــ يدعو كثير من المحللين والمستشارين في مجال السياسات إلى زيادة الإنفاق على البنية التحتية لتعزيز النمو، ما سيؤدي إلى انخفاض نسبة الدين إلى إجمالي الناتج المحلي واتساع الطاقة الإنتاجية للاقتصاد على المدى الطويل "دراسةIMF, 2014 ". ومع هذا، حتى إذا كانت المشاريع الجاهزة للتنفيذ قد حددت، وعمليات صنع القرار بشأن الاستثمار العام تسير بكفاءة، قد لا يحدث هذا الاستثمار. لماذا؟ إن الاعتبارات السياسية تقف في طريقها. وعندما تكون الانتخابات وشيكة، يختار صناع السياسات تقديم منافع مباشرة لجمهور الناخبين إما بتخفيض الضرائب أو زيادة تحويلات الدخل على حساب الاستثمار العام التي تستغرق وقتا لكي تؤتي ثمارها. وهناك عوامل أخرى يمكن أن يكون لها دور كذلك في تثبيط الاستثمارات اللازمة. على سبيل المثال، التوجهات السياسية للأحزاب التي تشكل حكومة ربما كانت تفضل مستوى أقل من الاستثمار العام. وعندما لا تكون هناك قيود سياسية أو مؤسسية، ينبغي أن يتحدد الاستثمار العام في الأساس بناء على احتياجات التنمية ـ لتلبية متطلبات السكان الآخذين في النمو والحد من الاختناقات في البنية التحتية. وقد يأتي الاستثمار العام في بعض الأحيان مدفوعا باعتبارات إدارة الطلب ـ على سبيل المثال، عندما تكون هناك طاقة فائضة في الاقتصاد ويعتقد صناع السياسات أن الاستثمار سيؤدي إلى زيادة الطلب الكلي وتوفير مزيد من فرص العمل على المدى القصير. مع هذا، ففي واقع الأمر، غالبا ما تؤثر الاعتبارات السياسية بقوة في قرارات الاستثمار العام. قدمت دراسة (William Nordhaus (1975 نموذجا مبكرا لطريقة تأثير الدورات السياسية في صنع القرارات الاقتصادية. وذهبت إلى أن أصحاب المناصب لديهم ما يدفعهم إلى حفز الاقتصاد قبل الانتخابات لكي يحققوا تخفيضا مؤقتا في البطالة، وهي النتيجة التي يفضلها الناخبون، وتكون نظرتهم بوجه عام قصيرة المدى. وازدهرت البحوث عن الاقتصاد السياسي للموازنة وسياسة المالية العامة. وأشير إلى أربعة عوامل باعتبارها من الطرق المحتملة لتأثير العوامل السياسية في الاستثمار العام: - رجال السياسة ينتهزون الفرص، ونتيجة لذلك، لا يطلقون مشاريع الاستثمار إلا في بداية الفترة الانتخابية حتى يتمكنوا من افتتاحها قبل الانتخابات التالية. ومع قرب الانتخابات، يختار السياسيون خطب ود الناخبين عن طريق زيادة الأجور في القطاع العام، والتخفيضات الضريبية، والتحويلات النقدية، وتوفير الأموال الكافية لذلك بتخفيض الاستثمار. - نتائج المالية العامة تعكس أيديولوجية الأحزاب السياسية المختلفة، على سبيل المثال، ربما كان تفضيل أحزاب اليمين لتوفير قدر محدود من رأس المال المادي والبشري في المؤسسات المملوكة للدولة يعني انخفاض الاستثمار العام في البنية التحتية والصحة والتعليم. ومن ناحية أخرى، تفضل أحزاب اليسار دولة أنشط، ما يعني ارتفاع الاستثمار العام في هذه المجالات. - حكومات الأقلية، وانقسام السلطة التشريعية، والتحالفات، ومجالس وزراء متعددة الأحزاب يمكن أن تفضي إلى الإسراف المالي وانخفاض الاستثمار العام. وقد تواجه الائتلافات الكبيرة وحكومات الأقلية صعوبة أكبر في التوصل إلى اتفاق على تحقيق التوازن في الموازنة. ويصبح تخفيض الاستثمارات الحكومية أسهل من بعض أوجه الإنفاق الأخرى. - عدم كفاية مؤسسات الموازنة ــ القواعد والنظم التي تتم بناء عليها صياغة الموازنة واعتمادها وتنفيذها ــ ما يجعلها غير قادرة على حماية الاستثمار العام أثناء وقوع أزمة. من المرجح أن يكون لعامل أو أكثر من هذا العوامل الأربعة تأثير في سلوك الاستثمار العام. وقد اختبرناها جميعا لتحديد أي العوامل هي التي تسود وتحت أي ظروف "دراسة - Gupta, Liu, and Mulas Granados, 2015". وقمنا بإعداد قاعدة بيانات فريدة من 80 دولة ديمقراطية في الفترة من 1975 إلى 2012، تغطي كل المناطق ومستويات الدخل. وتشمل قاعدة البيانات انتخابات وطنية للسلطات التنفيذية والتشريعية وتختلف من جوانب مهمة عن تلك التي شملتها دراسات سابقة، فتتجاوز الدول الديمقراطية المتقدمة وتتضمن مجموعة واسعة من بلدان الأسواق الصاعدة والبلدان منخفضة الدخل التي تجري انتخابات حرة وتنافسية وتستخدم مقاييس أدق للدورة الانتخابية بتحديد اليوم والشهر والسنة التي يذهب فيها المواطنون للاقتراع. على سبيل المثال، إذا كانت الانتخابات تعقد في تشرين الثاني (نوفمبر) 2012، نقيس الشهور المتبقية حتى الانتخابات التالية بعد هذا التاريخ. وتؤخذ بيانات تواريخ الانتخابات بالشهر والسنة من "قاعدة بيانات المؤسسات السياسية" التي ينشرها البنك الدولي. ويتضح تراجع الاستثمار العام على مدى العقود الثلاثة الماضية على مستوى معظم الاقتصادات. ففي الاقتصادات الصاعدة، انخفضت نسبة الاستثمار العام إلى إجمالي الناتج المحلي من نحو 5 في المائة في منتصف الثمانينيات إلى نحو 3 في المائة في 2014. وفي بلدان الأسواق الصاعدة والبلدان منخفضة الدخل، كان الانخفاض شبيها بذلك إلى حد كبير، فهبط ما يقرب من 10 في المائة من إجمالي الناتج المحلي إلى ما يراوح بين 7 و8 في المائة تقريبا من إجمالي الناتج المحلي أثناء الفترة نفسها. وفي الوقت نفسه، ازداد الاستهلاك العام زيادة محدودة ــ وخاصة في الاقتصادات المتقدمة، حيث بلغ نحو 20 في المائة من إجمالي الناتج المحلي، ويرجع أحد أسباب ذلك إلى ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية ومعاشات التقاعد والتحويلات الأخرى المرتبطة بشيخوخة السكان. وتتوافق هذه العوامل الدافعة طويلة المدى مع الأدلة على أن دورات الاستثمار هي أيضا تتأثر بالاعتبارات السياسية على المدى القصير... يتبع.
مشاركة :