فرض الحدث اللبناني نفسه على الإعلام العربي، بوصفه تطوراً نوعياً في طبيعة الصراع بين الدولة الرسميّة والمجتمع المحليّ؛ تطايرت خطوط حمراء كثيرة، طائفيّة ومناطقيّة وسياسيّة بقيت لعقود طويلة لا تُكسر. وهو أمر تكرر قبلها في غير ما بلد عربي، وما زال مستمراً حتى اليوم في الجزائر والعراق. ولا يبدو أحد من الأطراف المعنيّة - أقلّه لبنان - متفائلاً بالوصول إلى خواتيم سحريّة لتلك الحراكات التي يريد أحد الأطراف أخذها إلى حدودها القصوى، وإسقاط النظام السياسي بالكامل، بينما يريد الطرف الآخر إبقاء الهيكليّة كما هي، وتنفيذ إصلاحات محدودة، ربما لتمرير الأزمة وشراء الوقت. وهذا ربما يدفع للتساؤل حول طرائق اكتساب المجتمعات لحريّاتها من تغوّل السلطة، وهل ثمّة عائق ثقافي ما يحول بين سكان الشرق الأوسط والوصول يوماً ما إلى الحالة «الإسكندنافية»، حيث الدولة متمكنة مزدهرة نظيفة اليد، والمجتمع يتمتع بحريّات واسعة وفضاء ديمقراطي وقوانين شفافة في آن واحد؟ دارون آسميغلو (البروفسور في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا) وجيمس روبنسون (البروفسور في جامعة شيكاغو)، صاحبا الكتاب ذائع الصيت «لماذا تفشل الأمم؟»، يعالجان تحديداً هذه الجدليّة في كتابهما الجديد «الممر الضيّق: الدول والمجتمعات ومصائر الحريّات»، عبر استعراض مستويات متنوعة من التوازنات التي تقوم في المجتمعات السياسيّة المعاصرة، ليخلصا إلى القول إن الحالة الإسكندنافيّة - إذا اتفقنا على تلك التسمية - تتحقق في إطار توازن دقيق للقوة بين الدولة والمجتمع. فالحريّات المجتمعيّة لا تمنح من الدولة، ولا تُؤخذ بإسقاطها، بل هي تزهر حصراً في ممر ضيّق من التنازع والتفاوض المستمرين بين طرفي المعادلة. وهما لذلك يحرصان على أن الدولة كانت منذ تطورها في المجتمعات الإنسانيّة بديلاً للفوضى، ونقيضاً للحريّات المنفلتة التي تنتهي دائماً، إن لم تنظمها قوانين رادعة، إلى تغوّل القوي على الضعيف، والذكور على الإناث، والأغنياء على الفقراء. يعتمد آسميغلو وروبنسون في تمثيل التوازنات الممكنة بين الدولة والمجتمع على الليفياثان (تسمية الرمز الأسطوري للوحش الهائل) الذي أطلقه المنظر السياسي الإنجليزي توماس هوبس (القرن السابع عشر) على الدولة بمفهومها المعاصر. عند هوبس، كان الخطر الأساسي على الاجتماع البشري يكمن في الصراعات المفتوحة التي لا يمكن حسمها، وحفظ الأرواح والممتلكات، في غياب دولة مركزيّة قويّة. ويسمى المؤلفان هذا الليفياثان الهوبسي بالديستوبيّ، فيما نقيضه هو «الليفياثان الغائب»، حيث الفوضى والحرب الأهليّة المفتوحة والثارات التي قد تتوارث عبر الأجيال، بينما قد تجد بلاداً (مثل الهند المعاصرة مثلاً) تحقق سلامها الداخلي عبر إسناد دولة مركزيّة ضعيفة بأقفاص اجتماعيّة خانقة تقوم مقام «الليفياثان الديستوبيّ»، فتفرض على الأفراد اتّباع سلوكيّات معينة تحت طائلة العزل المجتمعيّ، لتكون في النهاية شكلاً آخر من طغيان الدولة على المجتمع، لا سيما أن تلك الأقفاص لا يمكن إزالتها بالفعل إلا من قبل الدولة. آسميغلو وروبنسون يريان في الممر الضيّق بين «الليفياثان» النقيضين: «الديستوبي» (دولة قوية ومجتمع ضعيف) و«الغائب» (دولة ضعيفة ومجتمع قوي) فضاءً محدوداً لتوازن مؤقت سائل بين دولة قويّة ومجتمع قوي، كما في الدنمارك المعاصرة مثلاً، حيث تتوازى كفاءة تحصيل الضرائب العالية مع نظام رفاه متماسك، على نحو أنجز ازدهاراً اقتصادياً واستقراراً اجتماعياً، وحريّات فرديّة في إطار قانون شفاف. ويطلق المؤلفان على هذا الفضاء تسميّة «الليفياثان المقيّد»، حيث العلاقة بين الدولة ومواطنيها تقوم على أساس الثقة بدل الخوف، وعلى المصارحة بدل المواجهة العمياء. يوظّف المؤلفان نموذجهما هذا لوصف طبيعة التوازن بين الدولة والمجتمع بهدف تقديم قراءة تحليلية للتحولات السياسيّة عبر العالم. في روسيا المعاصرة، لحظة سقوط الاتحاد السوفياتي، ضعفت الدولة، وتفلت المجتمع من عقاله إلى حد كبير. ولذا، فإن بوتين يحظى بتأييد قطاع واسع من الروس، لأنه قاد عمليّة استعادة الدولة القويّة المركزيّة، على النسق الديستوبي. والصين بالطبع، بنظامها الحديث، مثال «ديستوبيّ» آخر، بينما تبدو دول مثل الصومال وليبيا نماذج عن «الليفياثان الغائب». كما تُطرح نقطة مهمة حول دور تاريخي لبعض النخب المهيمنة في منع قيام حالة دولة «الليفياثان المقيّد» داخل بلادها، حماية لمصالحها الذاتيّة الضيقة التي لا يناسبها أيضاً ليفياثان دستوبي ولا غائب. ولذلك، فإن هذي النخب تُنشئ ما سماه المؤلفان «الليفياثان الورقيّ»، حيث الدولة قوية بما فيه الكفاية لحفظ مصالح النخبة حصراً، ولكنها ضعيفة في الوقت ذاته عن فرض الضرائب على الأثرياء، أو تطبيق التشريعات الرادعة بحقهم. ولعلّ النظام اللبناني يكون أفضل مثالٍ على هذا النموذج الذي يتسبب دائماً بغياب الازدهار الاقتصادي، وتعاسة الأغلبيّة، وعدم الاستقرار السياسي والأمني، ناهيك من استعارته لشيء من نظام الأقفاص الاجتماعية لردع الأفراد المتمردين على طوائفهم، من خلال عزلهم اجتماعياً، وهو ما قد يفسّر إلى حد بعيد تعقيد الحالة اللبنانية، وصعوبة تحقيق تغيير حقيقي فيها. ويُشير المؤلفان إلى أن حالة «الليفياثان المقيد»، وإن كانت صعبة، فإنها ممكنة، لكنها تحتاج بعد تحققها إلى انخراط المجتمع في سباق يومي دائم للإبقاء على حالة اتزان القوّة الدقيق مع الدّولة. لكنهما يحذران في الوقت ذاته من أن أغلب الأمثلة التاريخيّة تشير إلى كون سقوط حالة «الليفياثان الديستوبيّ»، أو حتى شقيقه «الليفياثان الورقيّ»، تعني دائماً انتقالاً إلى حالة «الليفياثان الغائب»، بدلاً من «الليفياثان المقيّد». وهنا، يورد المؤلفان نموذج العراق المعاصر بعد سقوط دولته المركزيّة القويّة في عهد النظام السابق، ومن ثم الانتقال إلى حالة دولة غائبة، ما لبثت النخب المتنفذة أن نقلتها إلى حالة «الليفياثان الورقيّ»، حيث الزبائنيّة والفساد هما سادة الموقف. ويسجّل المؤلفان عبر «الممر الضيّق» توقعاتهما بشأن مستقبل عدد من الأنظمة السياسيّة القائمة في العالم. فهما يريان مثلاً أن الهند لن تبني يوماً مجتمعاً على النسق الإسكندنافي، ولن تحظى بازدهار اقتصادي مستدام، بسبب اعتماد الدولة هناك على نظام الأقفاص الاجتماعية لمدّ سيطرتها على المجتمع، كما يعتقدان أن الصينيين سيتوقفون عن القبول بحالة «الليفياثان الديستوبيّ» القائمة عند توقف النمو الاقتصادي للبلاد. وبينما اختارت النخبة في كوستاريكا مثلاً التوجه نحو شكل من «الليفياثان المقيّد»، فإن نخباً أخرى في أميركا الجنوبيّة - كما غواتيمالا والبرازيل وتشيلي مثلاً - اختارت مصالحها الذاتيّة على حساب مجتمعاتها، وشيّدت حالات من «الليفياثان الورقيّ» التي أنتجت أوضاعاً اقتصاديّة صعبة، وتفاوتات مجتمعيّة، واضطرابات متكررة. ولا يربط «الممر الضيق» بين سعي المجتمعات للوصول إلى صيغة (إسكندنافيّة) من العلاقة مع الدّولة وأي عوامل ثقافيّة أو عرقيّة محددة، لكنه من الواضح، في سياق تحليلهما، أن بعض الأنظمة العقائديّة قد تثبط معتنقيها عن الانخراط الإيجابي في بناء علاقة توازن قوة بين الدّولة والمجتمع، وتسهم بدفعهم للرضوخ لحكم الأقليّة، سواء في حالة «الليفياثان الديستوبيّ» أو حالة «الليفياثان الورقيّ». وهما يقدمان الكونفوشيوسيّة التي طالما كانت عوناً لتقبل المواطنين الصينيين هيمنة الإمبراطور والدولة، وثبطتهم عن النضال المجتمعي الإيجابي للوصول إلى حالة «الليفياثان المقيّد». ويذكران بأن السلطة الشيوعيّة في الصين الحديثة حاولت بداية استئصال الكونفوشيوسيّة، على أساس الفلسفة الماديّة المعادية للأديان التي تبناها ماو تسي تونغ، لكنها ما لبثت أن شرعت بخطوات مدروسة متتابعة لاستعادتها مجدداً، بوصفها سلاحاً عظيماً لتمديد حالة «الليفياثان الديستوبيّ»، وسيطرة الحزب على الدولة. «الممر الضيّق» لا شكّ واحد من أفضل الكتب الحديثة التي تشرح ديناميّات العلاقة بين الدولة والمجتمع، عبر أدوات نظريّة متماسكة، من أجل فهم أعمق للصراعات السياسية وتحولات الأزمنة، وهو أيضاً على نحو ما قفزة نوعيّة للمفكرين آسميغلو وروبنسون، عن كتابهما الشهير السابق «لماذا تفشل الأمم؟» الذي اتهمه كثيرون بالتركيز على عمل المؤسسات، بدلاً من تقديم صيغة جامعة لطبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع. «الممر الضيّق: الدول والمجتمعات ومصائر الحريّات» المؤلفان: دارون آسميغلو وجيمس روبنسون الناشر: بنغوين راندوم هاوس، 2019، الولايات المتحدة. - The Narrow Corridor: States, Societies, and the Fate of Liberty, by Daron Acemoglu and James A. Robinson, Penguin Random House, USA (2019).
مشاركة :